يلمس المرء وجود هوة كبيرة بين الجيل الحالي والجيل الذي سبقه، خصوصا في البلدان التي نشأت فيها الثورات الوطنية ضد الأنظمة المستبدة. وتكاد لغة الحوار أو التفاهم بمفهومه العام وهو القبول بالآخر، تنعدم بين الجيلين مما يثير الكثير من المشاكل والإصطدام الدائم بينهما والذي ينتهي في بعض الإحيان الى تكريس القطيعة بين جيل الشباب وبين الحكومات والأنظمة التي تحكمه كما هو عليه الحال اليوم.


وهذه الحالة التي أعتبرها تصادما للمصالح بين الجيلين، لها أسباب عديدة من أهمها شرعنة السلطة الثورية في معظم البلدان التي تعاني من هذا التصادم.

ففي كردستان على سبيل المثال هناك جيل ثوري ناضل في الجبال لسنوات طويلة بحكم تعاقب أنظمة إستبدادية ودكتاتورية عليها، وهذا الجيل يشرعن لنفسه السلطة سواء وصل إليها عبر انتخابات شعبية، أو بتزويرها في بعض الإحيان، أو إستبد بها إستنادا الى شرعيته الثورية،وفي الحالتين فإنه يجيز لنفسه ما لا يجيزه لغيره من حيث إحتكار السلطة الأبدية.


وفي المقابل هناك جيل جديد نشأ في المدن في ظل الإستقرار الأمني، وفي ظروف التحرر من الحكم الدكتاتوري التي لم تعد هناك حاجة فيه للصعود الى الجبال والنضال ضد النظام، وهذا الجيل لا ذنب له أنه لم يعش أثناء سنوات الثورة الكردية، ولكن اليوم يؤخذ ظلما بجريرة عدم مشاركته في مرحلة النضال الثوري، وبإعتبار ذلك منقصة تحسب عليه عند المقارنة مع الجيل الثوري القديم.


فالجيل السابق الذي بات يتحكم بمقادير الأمور في كردستان منذ تشكيل الكيان الكردي الحالي قبل ما يقرب من عشرين سنة، ينظر الى الجيل الحالي بنظرة أقل من دونية، وبالمقابل يسبغ على نفسه كل إعتبارات التقديس والمهابة بإعتباره صاحبا للمكاسب التي تحققت للشعب الكردي في السنوات الأخيرة!!.
ولكن هذا الجيل المتباهي والمتفاخر بنفسه وبنضاله الثوري ينسى أو يتناسى بأن إنتفاضة آذار من عام 1991 إنما كانت في الأساس إنتفاضة الشعب المظلوم ضد الدكتاتورية الصدامية الظالمة، وأنها كانت إنتفاضة عفوية إنطلقت شرارتها من مدينة رانية الحدودية دون أي تدخل أو تخطيط مسبق من قبل قيادة الثورة الكردستانية المتحصنة في جبال كردستان في تلك الفترة، وأن كل ما عملتها تلك القيادة أنها بادرت بالإمساك بزمام قيادة الإنتفاضة بعد أن عم الغضب الشعبي أرجاء كردستان، وأخذت أجهزة السلطة المرعوبة من غضب الجماهير بالتراجع، فيما عدا بعض الإستثناءات من مقاومة فلول عدد من المؤسسات الأمنية والإستخبارية العاملة داخل المدن الكردية للمد الجماهيري.

ونسيت تلك القيادة أيضا بأن القضية الكردية التي كانت مطمورة في زوايا النسيان لدى المحافل الدولية طيلة عقود طويلة، إنما عرفت بنفسها من خلال مأساة إنسانية للشعب الكردي أثناء تعرضه للقصف الكيمياوي وعمليات الأنفال على يد النظام الصدامي، وأن تلك القضية دخلت مرحلة التدويل بعد أن هرب مليون مواطن كردي من بطش النظام الى جبال كردستان القصية في آذار من عام 1991، مما دعا بفرنسا أن تحث مجلس الأمن الدولي على إصدار قرار يقضي بحماية الشعب الكردي وهو القرار 688 الذي أوصل القضية الكردية الى المحافل الدولية.

ومع إقامة منطقة حظر الطيران بموجب ذلك القرار تمكنت الأحزاب الكردية التي كانت تتمتع آنذاك بشعبية طاغية في أوساط المجتمع الكردستاني من الإمساك بالسلطة في كردستان، من خلال تشكيل أول برلمان كردي إنبثق عنه أول حكومة إقليمية فرضت كأمر واقع في ظل وجود النظام الصدامي ببغداد الذي سكت عن إنشاء ذلك الكيان بسبب الضغوطات الدولية وبالذات الأمريكية.

ومع كل هذه الحقائق فإن الإدارة الكردية إعتبرت كل ما تحقق من المكاسب للشعب الكردي وكأنها quot; منةquot; تتفضل عليها بالشعب الكردي، شاطبة على أي دور للجماهير الكردستانية ومعاناتها وتضحياتها التي كانت هي الأساس في صنع الأحداث التي شهدتها كردستان.

المشكلة الكبرى أن قيادة تلك الأحزاب وبنتيجة شرعنة سلطتها حاولت ومازالت تحاول لنقل صيغة الحكم الحزبي والعشائري التي مارستها في جبال كردستان أثناء مرحلة الثورة، الى المرحلة الحالية التي يفترض أن تكون مرحلة البناء المؤسساتي للحكومة ولدولة القانون. فهناك العديد من صيغ الحكم في الجبال نقلت الى مؤسسات الحكومة الإقليمية،خصوصا إعتبار الحزب المرجع والأساس والآمر الناهي في كل شيء، ولهذا السبب فإن حكومة الإقليم عانت منذ تشكيلها ولحد اليوم من مشكلة التدخلات الحزبية في شؤون إدارتها، فالحزب يعتبر نفسه أكبر من الحكومة وتتدخل بذلك في كل تفاصيل الإدارة اليومية، وهذا أمر غير مقبول في كل أنحاء العالم، لأن الحكومات يفترض أن تخدم الشعب وليس مجموعة أحزاب.

لا تكاد تمر لحظة دون أن تحاول وسائل الإعلام الحزبية تصوير ما يحصل عليه المواطن الكردستاني من الماء والكهرباء وتوفير الخدمات كأنها هبة أو مكرمة من مكرمات قياداتها، فجرائد الأحزاب تمتليء بالحديث اليومي عن أمجاد تلك الأحزاب ومواقفها البطولية في التصدي للنظام الصدامي والدفاع عن الشعب، وهذه أمور حقيقية فهمناها وإستوعبناها حتى دخلت الى خلايا أجسادنا، وبات التذكير بها بمثابة وجبة يومية رابعة للمواطن الكردستاني، ولكن أن تتحول مسألة توفير الماء والكهرباء الى quot; منةquot; دائمة وإنتقاصا من شأن الآخرين، فإن الحالة ستقلب تلك المكاسب الى ردود فعل عكسية، فالمواطن الكردستاني كان يعرف دور وعطاءات وتضحيات الأحزاب الثورية التي شاركت في سنوات النضال، ومع ذلك لم يتوان عن التصويت لغيرها في الإنتخابات البرلمانية، خصوصا الشريحة الشبابية.

هناك صراع دائم وجدل مستديم بين طبقات السلطة في كردستان التي يمثلها المحاربون القدماء،وهي طبقة تعيش في العلالي،وبين الجيل الشبابي المحروم من كل شيء. ففي الوقت الذي يعيش فيه أولئك المحاربون وحاشيتهم وأعوانهم وأنصارهم وقبائلهم في أرغد عيش متنعمين في قصورهم ومزارعهم بمباهج الحياة وملذاتها، يفتقد الشاب المتخرج من الجامعة وظيفة ولو وظيعة يتمكن من خلالها تأمين مستقبله!!!.

هناك بالفعل جفوة تصل الى حد القطيعة بين الجيل الشبابي الحالي وبين المحاربين القدماء الذين باتوا يضيقون بمطالب هذا الجيل وبحقوقه المشروعة في العيش بعزة وكرامة، بل أنهم يضيقون من مجرد توجيه النقد الى السلطة في بعض الأحيان، حتى أنهم يقبلون ممن خاض النضال بجبال كردستان أن ينتقد السلطة ويتحدث عن سلبياتها، ولكن لا يحق لمن لم يضحي بشيء في نظرهم بتوجيه النقد الى تلك السلطةquot;؟؟؟!!.

وبهذا فإن المحاربين القدماء وخصوصا القيادات منهم أصبحوا بمنزلة القديسين وأن أي مساس أو إنتقاص من شأنهم يعتبر كفرا بعينه لأنه تحمل عذابات العيش في الجبال؟؟!!.

هذا التفاوت في الرؤى للواقع الراهن أوجد حالة من قطيعة شبه تامة بين الغالبية العظمى من الشعب وبين المحاربين القدماء الممسكين بالسلطة في الإقليم، وتتوسع الهوة بينهما بمرور الإيام لأن أولئك المحاربين ما زالوا يعيشون في الماضي، فيما يتطلع الجيل الحاضر الى المستقبل، وهو مستقبله بالطبع.

ليس غريبا والحالة هذه أن تجد في إقليم كردستان المئات من القيادات التي وصلت الى أرذل العمر ولكنها ما زالت تحتل أهم المواقع والمناصب الحساسة في إدارات الحكومة ومؤسسات السلطة. بل أن هناك عادة غريبة نشأت في الفترة الأخيرة بكردستان، وهي توريث الموقع أو المنصب لأولاد وأحفاد المحاربين القدماء، فلا عجب أن ترى إبن أو إبنة أحد قيادات أحزاب الجبال وهو يحتل موقعا وزاريا أو يعين عضوا في البرلمان مكان أبيه، رغم أنه قد يكون بينهم من لا يمتلك أية مؤهلات لإشغال تلك المناصب والمواقع؟؟!!.والمشكلة أن هؤلاء يحتلون تلك المواقع على حساب الآلاف من الكفاءات وأصحاب الشهادات العلمية الذين لا يجدون وظائف مناسبة لهم في مؤسسات الحكومة، فيضطرون إما الى الهجرة للخارج، أو البقاء في المنزل ليزيدوا من نسبة البطالة في كردستان.

إن للعمر أحكاما، وللحياة منتهى، فلابد أن ينقضي جيل الثورة في أي بلد كان، فهل سيعزل أو يخرب البلد بإنقضائهم، أم لا بد من تسليم الراية للجيل الذي يليهم، ذلك هو السؤال الملح في هذه الأيام؟؟!

[email protected]