لنستعرض جملة الحجج الممكنة ضد شرعية أو أخلاقية وضع الأصفاد يوما في يدي عمر البشير وتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.

- أن السودان ليس طرفا في معاهدة روما ولا يحق قانونا المطالبة بمثول مواطن دولة غير ممضية.أمام محكمة لا تعترف صلاحياتها

- أن التوصيف للتهم ضدّه مثل الإبادة الجماعية غير دقيقة وحتى منحازة.
- أن العملية سياسية مدبرة من قبل الغربيين الذين لا يستهدفون إلا العرب والمسلمين وصغار الأسماك الأفارقة.

- أنه كان من الأولى والأجدر التوجه للسادة بوش ورامسفيلد وشيني وأيديهم ملطخة بدماء مئات الآلاف من العراقيين ناهيك عن الشكوك في استجابة عدالة المكيالين مع الشكوى المقدمة ضدّ مجرمي الحرب الإسرائيليين بعد فضائع غزّة.

-أنه من السهل جدا على الولايات المتحدة الأمريكية أن تبعث بالبشير عبر مجلس الأمن للسجن مستعملة اتفاقية ترفض إمضاؤها بل حاربتها إلى آخر لحظة وكانت السبب في تقليص الكثير من صلاحياتها.
*
المشكلة بالنسبة لأنصار إحالة البشيرndash; وكاتب هذه السطور منهم ndash; أن كل هذه التهم والشكوك في المحكمة الجنائية الدولية في محلّها تماما.

نعم ثمة انتقائية في اختيار صغار الأسماك وليس من باب الصدفة أن الأربعة المتهمين حاليا أمام المحكمة الجنائية الدولية أفارقة كلهم.

نعم هناك استعمال واضح لمجلس الأمن في هذه القضية، هذا المجلس العتيد الذي فشل في فرض وقف إطلاق النار على الشيوخ والعجز والأطفال في غزة.

نعم إنه من قلة الحياء أن تستعمل الولايات المتحدة آليات ترفضها لنفسها.
لكن...هناك بعد يجب أن ننتبه له وقد تكون أحسن طريقة لشرحه التذكير ببعض الوقائع التاريخية لقضية مشابهة.

قلّ من يعلم إن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي لا يحتوي إلا على 30 بندا، كان في الأصل يحتوي على 48 منها بند يتعلّق بحقّ الشعوب في السيادة والاستقلال وحذف هذا البند من المسودّة الأصلية بضغط قوي من الدول الغربية الاستعمارية. هذا لم يمنع أنه بعد أقل من عشرين سنة أي سنة 1967 صدور عهد الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وعهد الحقوق السياسية ويتضمنان هذا الحق وبقية الحقوق الأخرى التي رميت في سلة المهملات كحق الأقليات الثقافية وحق التنمية الخ. ثم تواترت الاتفاقيات الناجمة كلها عن نضالات مريرة لتتوج بالمعاهدة العالمية ضدّ التعذيب سنة 1984 وهي إلى اليوم الوثيقة التي تمكن من محاربة أبشع مظاهر الحكم الاستبدادي الذي راح ضحيته سنة 2003 قرابة العشرين مليون شخص في العالم.

معنى هذا أن الاتفاقيات الدولية لا تولد مكتملة وإنما ناقصة وأحيانا يتمّ إجهاضها من قبل القوى التي لا مصلحة لها فيها، لكن وجودها مؤشّر على أن حاجزا كسر، أن طريق فتح، أن على المناضلين التوغّل بكل قوة في الفجوة المفتوحة لدفع قضاياهم.

هكذا هي الحياة ولا يوجد طريقة أخرى للتقدّم.
عوض أن نتباكى إذن على مظالم العدل الدولي، والمكيالين، والأسماك الصغيرة الخ فإن واجبنا كبشر يسعون لتقليص العنف الهمجي الذي تتسبب فيه الدول،الترحيب بكل مسعى لإيقاف البشير،.والجهر إنها بداية متواضعة لكنها بداية على كل حال...ونحن نريد البقية

نحن لا نقبل أن يقتصر مفعولها على ال106 دولة المبرمة فالأمر بسخافة أن يقول مجرم في مجتمع ما لا أمثل أمام المحكمة لأنني لا أعترف بها.

نحن نريد لهذه المحكمة أن تكون ككل محكمة مستقلة تماما ونطالب بفصلها عن مجلس الأمن.
نحن نطالب ألا يكون هناك شخص في أي دولة ولو كانت الولايات المتحدة يفلت من المتابعات.
نحن لا نريد للمحكمة أن تفقد مصداقيتها ونطالب بتتبع المجرمين الإسرائيليين.

نحن نريد استعمال الفقرة المتعلقة بجريمة التعذيب لتتبع كل الدكتاتوريين وجلاديهم الكبار والصغار.
*
كل هذه المطالب هي ساحات معارك المستقبل لنطوّر مؤسسة دولية تساهم في لجم غرائز
العنف المدمر عند من يفقدهم التسلط كل صواب ولا أمل في إصلاحهم أخلاقيا ولكن في ردعهم بالقانون لأنهم يخافون ولا يستحون.

ويوم يعلم كل زعيم عربي وكل وزير داخلية ومدير مخابرات أن منظمات حقوق الإنسان العربية بصدد إعداد ملفاتها لتقديمها للمحكمة الجنائية الدولية وأن تتبعه لن يكون فقط على وسائل الإعلام ورمزي فقط، فتيقنوا انه سيعود لهم ذلك الجزء من الحذر الذي فقدوه وهم يتصورون أنفسهم فوق كل محاسبة.


لنقبل إذن كعرب وأفارقة ومسلمين بالتضحية بهذا الكبش الصغير وهو رسالة مضمونة الوصول لمجانين خطرين وبلا ضمير قد يكفوا عنا شرهم على الأقل خوفا من إكمال بقية حياتهم وراء القضبان في دولة ترضى باستقبالهم على نفقتها المدة المحددة من قضاة لاهاي يحكمون بنفس الصرامة ضدّ quot; الكبارquot; وquot; الصغارquot;

د. منصف المرزوقي