* انفجرت بالبكاء وأنا أكتب عن حمزة شحاتة وتزامن الدمع مع الحبر.
* هناك ارتباط عضوي بيني وبين الخطيئة والتكفير.
* قاومت بشدة فكرة تقرير كتبي كمناهج في الجامعات السعودية.
* حاولت في كتبي أن أطبق طريقة سيد مكاوي:quot; الأرض بتتكلم عربيquot;.
* المرحلة الثقافية اليوم هي مرحلة ثقافة الصورة

عبدالله السمطي من الرياض: لم يمر صدور كتاب:quot;الخطيئة والتكفير: من البنيوية إلى التشريحيةquot; للناقد السعودي الشهير عبدالله محمد الغذامي عن نادي جدة الأدبي الثقافي في العام 1985 على الساحة الثقافية السعودية مرور الكرام. بل صحبته ضجة كبيرة طالت الكتاب ومنهجه، ورؤيته النقدية، بدءًا من عنوانه المثير غير المألوف في بيئة ثقافية واجتماعية محافظة، كانت تود أن تسمي الكتاب بـquot;الذنب والتوبةquot;، حتى مؤلفه بالتشكيك في منهجه، وتوجهه الفكري بل وعقيدته الدينية ونسبه وكنيته وهويته.

لقد أحدث صدور الكتاب تحوّلاً ملحوظًا في مسيرة النقد الأدبي بالسعودية، ونقل هذا النقد من أفقه الانطباعي، وآلياته النقدية والمصطلحية البسيطة إلى فضاء آخر مترع بالمنهج والنظرية والمفاهيم النقدية الحداثية التي لم تعتدها الثقافة السعودية طوال العقود السابقة على كتاب الغذامي، فقد مثل كتاب:quot; الخطيئة والتكفيرquot; نقلة نوعية في الأفق النقدي السعودي، وهو بمثابة:quot; الكتاب الأبوي الروحيquot; لنقاد الحداثة بالسعودية، حيث تابع النقاد الذين جاءوا بعد الغذامي منذ منتصف ثمانينات القرن العشرين وإلى اليوم الاشتغال على المفاهيم النقدية الحديثة، بعد أن كان النقد راقدًا في أحضان الانطباعية والذاتية..

وكتاب:quot; الخطيئة والتكفيرquot; من الكتب الرائدة التي أسست للمنهج البنيوي في قراءة النمط الأدبي في العالم العربي، حيث تبع صدور كتب: مشكلة البنية لزكريا إبراهيم (1977)، ونظرية البنائية في النقد الأدبي لصلاح فضل (1978) وجدلية الخفاء والتجلي لكمال أبو ديب (1979) وكان أول كتاب نقدي يرتكز على المنهج البنيوي في قراءة منتج شعري سعودي للشاعر حمزة شحاتة، فضلا عن كونه أول كتاب نقدي عربي يقارب النصوص الشعرية عبر آليات ما بعد البنيوية عبر التفكيكية أو ما سماه الغذامي وقتها ب:quot; التشريحيةquot;، وقد طبع الكتاب حتى الآن سبع طبعات.
الكتاب قوبل بموجة كبيرة من الهجوم من قبل التيارات التي تعادي المناهج الأدبية، وتكفر منتجي المناهج الحديثة سواءً على مستوى الفكر والإبداع الفني والشعري،وقد أطلق المناوئون لهذا الكتاب تهما كثيرة على الغذامي منها:quot; حاخام الحداثةquot; وquot; العلمانيquot; وquot; الحداثيquot; وتوصيفات أخرى ذكرها الغذامي في كتابه:quot; حكاية الحداثةquot;. وفي زمنquot; الصحوةquot; الثمانيني كان على الغذامي أن يصمد كثيرًا أو قليلاً، في وقت أمسك فيه بعضهم بميزانه وراح يكيل به الحداثة ويطففها في ميزان الإسلام، وآخر يسعى إلى تسمية النقد الأدبي بquot; النصح الأدبيquot; وثالث يريد أن يفصل بين شخصيات الرواية النسائية والرجالية في الكتابة، ورابع يحرم تدريس النقد الحديث والفلسفة والقصة القصيرة والرواية لأنها من باب الخيال، وخامس يحرم الفن السينمائي ويتساءل منكرا:quot; التمثيل تمثيل.. فلماذا التمثيل؟؟quot; !!
ومن جانب آخر، حصل المؤلف على جائزة مكتب التربية العربي لدول الخليج العربي في العلوم الإنسانية عام (1405ه 1985م) عن كتابه laquo;الخطيئة والتكفيرraquo;. كما بلغ عدد الدراسات النقدية والتحليلية حول مشروع الغذامي النقدي حوالي مئة وثلاثين دراسة، وكان لكتابه النقدي الأول laquo;الخطيئة والتكفيرraquo; نصيب الأسد من هذه الدراسات.
عبدالله الغذامي الذي يحتفي بعيد ميلاده الرابع والستين الشهر المقبل ( ولد 15 فبراير 1946) بمدينة عنيزة بالسعودية، هو اليوم يجلس على تراث نقدي جليل، يتشكل من (20) كتابًا نقديًا، آخرها:quot; القبيلة والقبائليةquot; ومن أبرزها: quot; تشريح النصquot; وquot; القصيدة والنص المضادquot; وquot; ثقافة الأسئلةquot; وquot; المرأة واللغةquot; وquot; النقد الثقافيquot; وquot; الثقافة التليفزيونيةquot; و( 76) بحثًا أدبيًا وفكريًا، وأكثر من ألف مادة ثقافية وحوارية وإعلامية.. هذا التراث النقدي مترع بالأسئلة، وحافل بالأفكار التي ترسم صورة متميزة مختلفة للحدث الثقافي خلال الربع قرن المنصرم، وتقفنا بجلاء على هواجسه وتصوراته.
في هذا الحوار نستعيد مع العذامي صورة:quot; الخطيئة والتكفيرquot; الأولى، كيف ينظر إليها، وكيف يحدد تقاسيمها اليوم عبر تجدد اللحظة في بروازها الزمني.. وهذا نص الحوار:

-كيف تنظر اليوم إلى الأصداء التي أحدثها صدور كتاب:quot; الخطيئة والتكفيرquot; منذ ربع قرن وبالتحديد في العام 1985؟
أولا شكرا لك على هذه اللفتة، لأنني ما كنت واعيا أبدا أن ربع قرن قد مرت على صدور الكتاب، ويبدو أن الإنسان يرتبط بذاكرته ارتباطا معنويا بحيث لا يرى مرور الزمن.
الكتاب بالنسبة لي يمثل علاقة تكاد تكون شخصية ومباشرة لأنه أول كتاب لي من حيث التأليف، وإذا كانت بحوث أخرى قد سبقته لكنه أول عمل يصدر في كتاب. ثم إنه يعيدني إلى مرحلة وزمن العمل على الكتاب حيث أنجزته في سنة التفرغ العلمي التي أمضيتها في الولايات المتحدة الأمريكية ولمدة 14 شهرا قمت فيها بكتابة الكتاب، والتزمت وقتها بالتزام ذاتي يقوم على المراقبة الذاتية. إذ إنني كنت حرًّا في أميركا حرية تامة، ليس علي رقيب وليس علي ضاغط رسمي، إذ المعتاد في سنوات التفرغ هو أن يمضيها الإنسان في التفاعل الثقافي وحضور المؤتمرات والمناسبات، وليس ملزمًا بأكثر من ذلك، ولكنني أخذت نفسي بشروط العمل ودفعت ثمنًا غاليًا من الناحية الصحية والنفسية، إذ إنني أرهقت نفسي إرهاقا شديدا دون أن أعي ذلك، ولكني كنت أشعر بحالات الأرق والتعب والتوتر. ومع الانهماك بالعمل لم أكن أربط بين قسوتي على نفسي بالعمل وذلك التوتر، مع ضاغط الغربة، ولكنني كنت منهمكًا إلى درجة غير واعية بالعمل، فكنت أبدأ مثل الأميركيين عند الساعة التاسعة صباحا، ولا أتوقف إلا عند الخامسة مساء باستثناء ساعة واحدة وقت الغداء تمامًا، مثل أي أميركي يعمل في بنك أو مؤسسة.
وأذكر أن احد الأصدقاء كان يتعجب مني ويقول لي quot;لم ترهق نفسك بينما لا رقيب عليك، فكنت أقول له: إن الرقابة الذاتية أقوى من أي رقيب خارجيquot;.
ومما أذكره أيضا أنني كنت في بعض الأوقات وبسبب انهماكي الشديد والتلاحم العميق بيني وبين شخصية ( حمزة شحاتة) أذكر أنني قد انفجرت بالبكاء وأنا أكتب، وكانت الدموع تنزل من عيوني. وفي الوقت ذاته كان القلم يسيل بحبره على الورق.
وهل تصدق أنني لا أستطيع الآن أن احدد الصفحات التي صار فيها الحدث. كل ما أتذكره أنني فعلاً كنت منهمكًا إلى درجة الاندماج التام مع حمزة شحاتة ndash; رحمه الله- إلى حد البكاء، وضاعت الصفحات الآن من ذاكرتي كتحديد لموقعها.
هذا كله يشير إلى ذلك الارتباط العضوي بيني وبين الكتاب، وهو بلا شك قريب إلى نفسي إلى درجة أنني لم أغير ولم أعدل بالطبعات المتلاحقة لأنني صرت أنظر إليه على أنه شيء لا يجوز لي المساس به أو الاعتداء على تكوينه، وكأنه جسد كامل ولم يعد لي حق في التدخل به.


-هل استفدت من صدور الكتب السابقة على كتابك مثل: مشكلة البنية، نظرية البنائية، جدلية الخفاء والتجلي لزكريا إبراهيم، وصلاح فضل، وكمال أبو ديب على الترتيب؟
نظرت في هذه الكتب أولا، وكان عندي رأي بضرورة جعل النقد أكثر عربية، لأن معظم الكتب التي كتبت عن البنيوية فيها قدر من العجمة والصعوبة على القارئ العربي، فشكل هذا همًّا أساسيًّا لدي وأشرت إلى ذلك في مقدمة:quot; الخطيئة والتكفيرquot;.
وقد كنت أرنو إلى ثلاثة اشياء:
أولا: أن أضع مقدمة نظرية تجعل القارئ شريكًا لي في التصور المعرفي، أو بالأحرى تجعله ناقدًا لي لأنني أزوده بالسلاح نفسه، فإذا جاء للتطبيق سيكون هو مؤهلاً لفحص النظريات على النصوص، وهذا عامل مهم: أن تجعل القارئ ناقدًا ومشاركًا لك بدلاً من كونه متلقيًا سلبيًّا.
ثانيًا: هو أن اجعل النقد ونظرياته يتكلم بلغة عربية مبينة، أو على طريقة الفنان سيد مكاوي:quot; الأرض بتتكلم عربيquot; أن نجعل النقد يتكلم عربيا، وهذه مهمة كانت في بالي فعلاً وأساسية، وكانت ملحوظة عندي حول الكتب الأخرى.
ثالثا: هو أنني دخلت بالكتاب إلى مرحلة ما بعد البنيوية وهي المرحلة التي سميتها بquot; التشريحيةquot;. وهذه أول وقفة عربية على مستوى العالم العربي كله على بوابة ما بعد البنيوية.

- إلى أي مدى تأثرت رؤيتك النقدية أو حفزت بعد الهجوم الضاري على الكتاب من قبل المناوئين للحداثة؟
الهجوم قد خدم الكتاب كثيرا، وأذكر أن الكتاب في أيامه الأولى وقبل أن يشيع بين أيدي الناي، قال لي صديق مصري هو الدكتور فهمي حرب، وكان زميلا لنا في جدة، قال لي: إنك ستجد من كتابك هذا ما وجده طه حسين من كتابه:quot; في الشعر الجاهليquot; قالها لي ونحن في الممر بكلية الآداب جامعة الملك عبدالعزيز، ونظرت إليه وقتها ولم أجبه بشيء، وما كنت متصوّرًا أبدا أن يحدث شيء كهذا، ولهذا فوجئت حينما بدأ الهجوم المضاد، وتذكرت كلام د. فهمي، وقلت: غنه كان حدسا في محله.
والطريف أنني وأنا أكتب الكتاب كنت أحدد في ذهني قضايا علمية ومعرفية أرشحها لتكون موضع جدل، فاكتشفت ndash; ويا للهول- أن حدسي ذاك لم يصدق، حينما جاءت الانتقادات عن أشياء ما كان يخطر في بالي أنها ستثير الناس مثل العنوان:ط الخطيئة والتكفيرquot; وصفات حمزة شحاتة، ومقولة:quot; موت المؤلفquot; والتأويلات التي لحقت هذه الأفكار رغم أنها مشروحة في الكتاب، فللعجب: يتركون شروحاتي وينطلقون نحو تأويلات من عندهم.
ومع أن هذا ضار على المستوى النفسي والشخصي لأنك تتعجب من إساءة الظن، ومن تعمد صرف الكلام عن حقائقه إلا أن الناتج العملي هو أنهم روجوا الكتاب ودفعوا الناس إلى الالتفات إليه، وهذه بالتالي مفيدة وإيجابية.
بعد هذه السنوات بدأ الكتاب يستقر في الذاكرة المعرفية، وزال الضجيج السريع حوله، وبدأ يأتي التمعن في أمره، وتعرف الآن يوجد حوالي 7 رسائل ماجستير ودكتوراة في الجزائر ومصر والعراق والأردن ولبنان، وهي تتعامل مع الكتاب والكتب الأخرى بحياد علمي دون أي تحيزات لا مع ولا ضد، ثم تلاحظ أنني ذكرت لك بلدانا ليس من ضمنها: السعودية، مما يعني الاستقبال الموضوعي الحر بعيدا عن تأثيرات المؤلف أو العلاقة معه، مما يجعل المسألة علمية بحتة.

- هل درس هذا الكتاب مع هذه الضجة التي أحدثها في الجامعات السعودية؟
الحقيقة أنني قاومت وبشدة ضد تقرير الكتاب في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة وقت صدوره ثم قاومت ذلك في الرياض، وكنت وما زلت أمنع الطلاب من العودة إلى كتبي، وأطلب منهم التفاعل داخل قاعة الصف مع أفكاري عبر نقدها ومقاومتها وليس التسليم بها، فأنا لا أريد طلبة يكونون نسخة كربونية مني، ولكنني أريد عقولا باحثة وأصيلة. لقدرتها على طرح الأسئلة وعدم التسليم بما يقال لها.
وكنت أقول للطلاب وما زلت: إنني سأفرح لو رأيت أحدا منهم بعد تخرجه في الجامعة في المطار أو في أي مكان ومعه كتاب من كتبي، ولكنني سأصدم لو رأيته يحضر إلى قاعة المحاضرة ومعه أحد كتبي، والفارق بين الحالتين أن الكتاب في القاعة مقرر إجباري، أما الكتاب في المطار وبعد التخرج هو قرار حر وصحيح، وهذا الفارق بين القارئ الحقيقي والتلميذ المكره على العمل.
إذا تريد قتل كتاب فقرره في المناهج، لأن العلاقة معه ستكون إكراهًا وإجبارًا.

- بعد 25 سنة من الممارسة النقدية التأليفية ما هي تصورات الغذامي النقدية اليوم؟
أنا أطرح الآن فكرة النقد الثقافي، والتحول من الأدبي للثقافي، وأقول بمقولة: موت النقد الأدبي لأنه بلغ حد التشبع، كما أن المرحلة الثقافية اليوم هي مرحلة ثقافة الصورة، وهو متغير معرفي عالمي ضخم ولا بد من التحول باتجاهه.

- كيف تقرأ أثر الخطيئة والتكفير في اللحظة الراهنة؟
لاشك ان عندنا الآن عددًا من الناقدات والنقاد من الشباب من جيل أكاديمي وجيل قارئ، ومن الملاحظ أن عددًا غير قليل من الشابات والشباب صار عندهم اهتمام كبير في المسألة الفلسفية والروائية، وفي الشعر النسائي بأقلام شاعرات وهذه متغيرات مهمة جدًّا سواء من حيث العدد أو المستوى.
وأخيرًا أسجل لك شكري وامتناني على تذكيرك لي بمرور ربع قرن على صدور هذا الكتاب.