لم تكن تثيره المدينة بشوارعها التي اعتاد على رؤيتها منذ طفولته، أو مقاهيها المستغرقة في النوم لولا تلك الأصوات التي تصدرها الملاعق الصغيرة عند تحريكها في قلب أقداح الشاي، ولا المآذن التي تنتظر أن تدب فيها الحياة عند حلول أوقات الآذان، أو السيارات التي تبدو خارجة على أي نظام وهي تسير على هوى سواقها، أو تلك الأغاني الصادرة من محلات بيع الأشرطة الغنائية في مزيج غير متناسق من الأصوات التي تملأ الشارع طولا وعرضا. أو المطاعم التي تتصاعد منها رائحة أطعمة مختلفة، والتي يسرع فيها الزبائن بالتهام الطعام بسرعة مذهلة وكأنهم في سباق محموم حول من سينهي طعامه أولا.
( سوق الهرج) كان المكان الوحيد الذي يرتاح بين معروضاته الغريبة التي لاتجمعها رابط. أثاث قديمة، ملابس مستهلكة، طيور زاهية الألوان، غريبة الشكل. ببغاء يكرركاسطوانة مشروخة الشتيمة التي يحفظها عن ظهر قلب. قرد مقيد بالسلاسل ينظر برعب إلى من حوله.
كان قد عاد لتوه من عند بائع لصور فوتوغرافية قديمة شحب فيها الزمان، وشاخت فيها الأيام. صورصفراء تطل منها وجوه غريبة تنتمي إلى مكان وزمان لم يعد لهما وجود.
وجوه سعيدة تبتسم للعدسة في مدن أوربية لا يعرفها، أو في مدن عراقية يمكن الاستدلال على بعضها، وأخرى تقف أمام بيتها، أو قرب سيارة قديمة، أو داخل سوق مكتظ، أو صورة رجل يحمل طفلا بزهو قرب باب خشبي ضخم لبيت لم يعد له وجود. فتيات سافرات ومتلفعات بالعباءة ينظرن بأمل وتفاؤل صوب المصور، بطل يستعرض كماله الجسماني محاولا إبراز أكبر حجم ممكن من عضلاته. من يدري كم من الزمن تباهى بعضلاته تلك!.
انشد لسبب مجهول للصورة الشاحبة التي تجمع أربعة رجال وفتاتين، جميعهم ينظرون إلى العدسة مبتسمين.ابتسم بدوره لهم. وبدأ يختار أسماء للوجوه الباسمة في الصورة: خليل، أحمد، وحيد، عباس، سميرة ومنيرة. يقفون تحت ظل شجرة جذعها في الأرض، وأغصانها تمتد إلى السماء.
تنفس عباس بعمق وهو يتحدث عن اليوم الذي ألتقطت فيه الصورة:
ـ أنا آخر واحد من اليسار، والشخص الذي إلى جانبي هو وحيد، وتقف إلى جانبه خطيبته منيرة. لقد ألتقطت هذه الصورة قبل عشرين دقيقة من مقتله على يد الشقي (سعدون فلكة)..آه ما أرعب تلك اللحظات التي عشناها في ذلك اليوم المشؤوم!.
بدأوا بالكلام في الصورة فيما بينهم وكأن الزمن يعيد نفسه، والوجوه الشاحبة تستعيد بريقها وحيوتها بقدرة قادر.
ارتفع صوت خليل وهو يردد بنبرات يخيم عليها ظل من الندم:
ـ أتساءل أحيانا..ألم يكن بمقدرونا منع وقوع الجريمة؟ منذ سنوات وهذا السؤال ينغص عليّ حياتي، وينهش لحظات الهدوء في ذاكرتي. لقد كنا نبدو ساعة الجريمة وكأننا مسمرين إلى أمكاننا، ننتظر إكتمال الجريمة.
مجّ أحمد نفسا من سيكارته.انطلق دخانها بهدوء من منخاريه:
ـ حقا كنا نبدو وكأننا نشاهد معا أحداث فيلم سينمائي، دون أن تكون لدى أي واحد منّا القدرة على تغيير أحداث ذلك اليوم المشؤوم. لربما اعتقدنا أن الأمر مجرد شجار عادي.
أجهشت منيرة بالبكاء وهي تقول:
ـ إنه القدر. قدر وحيد أن يقتل في ذلك اليوم. لقد أصيبت روحي بمرض لابراء منه. منذ سنوات وأنا أعيش على العقاقير المهدئة.. كنّا نستعد للزواج بعد ثلاثة أسابيع من اليوم الذي فقدته فيه. ظلت الكوابيس تطاردني وتسلمني ليد الأرق فترة طويلة. كان الدم ينزف منه بغزارة عندما بدأ يعاني من حشرجات الموت.
تدخلت سميرة في محاولة منها لإخماد الجمرة بين رماد الذكريات:
ـ أختي العزيزة.. لقد حدث ماحدث بسرعة البرق. لم نستطع أن نفعل شيئا. أنتِ أيضا متِ منذ تلك اللحظة. قبل ذلك اليوم المشؤوم، كنتِ تفيضين حيوية وسرحا وبريقا. كانت ضحكاتك الجذلى.ترج غرف بيتنا الهاديء. وكان وحيد يتذمر أحيانا منها قائلا، من أين تعلمتِ الضحك بهذه الطريقة؟..لا أحد في العائلة يعيش لحظة الضحك بكل كيانه مثلكِ. بعد الحادث الدامي، أصبحت تتحركين بفضل المهدئات.. لقد مرت سنوات طويلة ياعزيزتي، حاولي نسيان ماحدث.
تدخل أحمد في الحديث بعنف وكأنه يلقي بلومه وتقريعه على جميع الوجوه المبتسمة في الصورة الشاحبة:
ـ كيف لم ننتبه إلى أن (سعدون فلكة) كان يحمل سلاحا؟ لماذا لم ننبه وحيد إلى ذلك؟ لماذا لم نتدخل بحزم لفض النزاع بينهما؟.
رد عليه خليل بهدوء:
ـ اعتبرنا الأمر مجرد شجار بسيط. من أين لنا أن نعلم أن هذا الشقي يحمل سلاحا.
حدث مالم يكن في الحسبان، عندما استمع الجميع إلى صوت وحيد القتيل يأتيهم من مكان بعيد وكأنه صادر من أعماق قبره المظلم:
ـ لم أتحمل أن يتحرش بمنيرة بكلمات سوقية على مسمع ومرأى الجميع. كدت أختنق من شدة الغضب والانفعال للامساك بياقة قميصه، لكنه فاجأني بطلق ناري على صدري. أحسست بعده وعلى حين غرة بأن الفضاء والشجرة والحانة المقابلة بدأت تدور بسرعة مذهلة، قبل أن أهوي على الأرض، وقبل أن تختفي من عينيّ زرقة السماء..
بدا وكأن خليل وجد سلواه في أن يسأله السؤال الذي يدور في ذهن الجميع:
ـ أرجوك يا وحيد.. أن تقول لنا هل كان بقدورنا إنقاذك؟ هل تتهمنا بالتقصير؟
أتاه صوت وحيد من نفس العمق:
ـ أرجوكم لا تلوموا أنفسكم، ولاتقرعوها بسياط الندم!.. أنا شخصيا لم أنتبه إلى المسدس إلا في آخر لحظة، شاهدت فيها معدنه البارد يلمع بصورة خاطفة في آخر ضوء للشمس شاهدته في حياتي، في لحظة خاطفة للغاية. لقد قُتلت وقضي أمري بسرعة مذهلة.
ارتفع نحيب منيرة ونشيجها وكأنها تعيش الحادث وكأنها تعيش الحادث من جديد:
ـ لقد قٌتلتَ أمام عينيّ. مر ثلاثون عاما، منذ ذلك اليوم لم أزر بساتين (تازة)#، ولم أجلس في أفياء أشجارها التي كانت مأوانا أيام الربيع. لقد اُغتيل شبابي معك في نفس اللحظة.
تدخلت سميرة محاولة التخفيف من معاناة شقيقتها، طالبة منها السكوت حتى لاتزيد من عذابات وحيد والآمه. لكن منيرة واصلت البكاء:
ـ لقد انتهى كل شيء بالنسبة لي ياعزيزي بمجرد رحيلك.
يعود صوت وحيد ثانية:
ـ إنني لا أسمع شيئا. لماذا تصمتون؟
وحيد لم يسمع ماقيل له، لذلك بدأ يواصل حديثه بصوت يكاد لايسمع:
ـ أفكر بخطيبتي وحبيبة عمري منيرة. لا أزال أتوق لشعرها الناعم الطويل، المسدل كليل شعري على كتفيها. ترى أين هي الآن؟
انطلق صوت منيرة بلهفة لترد عليه:
ـ أنا هنا ياوحيد..أنا هنا.. ربما لم تتعرف على صوتي لأن السنوات تركت بصماتها الغادرة..لقد إبيضّ شعري وشخت. أصبحت إمرأة لا تطاق، دائمة التذمر, منذ سنوات لا أنام، ويظل المصباح مشتعلا في غرفتي حتى الصباح.
يواصل وحيد الحديث دون ان يبدو عليه أنه سمع شكوى منيرة من غدر الزمن وليالي الأرق التي لا تنتهي.
ـ ترى هل تزوجت منيرة؟ لِم تصمتون؟
اندفع عباس ليرد على سؤاله:
ـ ياوحيد.. انها شبه ميتة. تبدو وكأنها ماتت معك في نفس اللحظة.
تبدأ منيرة بنوبة جديدة من البكاء. تتدخل سميرة من جديد لتهدئتها، طالبة منها الكف عن النحيب، كي يظل وحيد يتذكرها كما هي في ذاكرته.
هبت منيرة في وجهها بغضب وهي تصرخ بنبرات حادة:
ـ هل يمكن لميت أن يتذكر حبيبته؟
ـ الا تسمعين إلى مايقوله؟ أنه يتذكركِ.
يحاول أحمد فرض الأمر الواقع على الجميع بنبرات هادئة:
ـ أرجوكم الكفّ من الحديث عن اليوم الذي حفر له مكانا في أخاديد ذاكرتنا!
يوافقه خليل على الفور:
ـ ثلاثون سنة مرت على الجريمة، ونحن نجلد أنفسنا بسياط الندم والتقريع.
يعود صوت وحيد من جديد:
ـ أنا في وسط ظلمة حالكة، لا أراكم، لكنني أسمعكم.لقد مر زمن طويل على مقتلي، لم يعد الأمر مهما بالنسبة لي. لقد قٌتلتٌ وانتهى الأمر. هل تفهمون ماأعنيه؟
لكن منيرة كانت عازمة على إبقاء جذوة ذكرى الحادث الأليم مشتعلة.
ـ الموضوع كان وسيظل مهما بالنسبة لي.
ردت عليها سميرة بسأم ظاهر يفضح عن نفسه في نبرات صوتها:
ـ شخصيا لم أعد ارغب بالحديث عن ذلك اليوم بعد الآن!
أدلى خليل بدلوه في الحديث:
ـ ترى هل في مقدرونا نسيان ماحدث بعد هذه السنوات الطويلة؟..أنا أفضل البقاء صامتا، مبتسما للعدسة في صورتنا المشتركة.
وافقه أحمد، وكأنه وجد في ذلك حلا للخروج من معضلة جلد الذات:
ـ سنظل في هذه الصورة التي التقطناها في يوم ربيعي مشمس من عام 1955 تحت ظلال ناحية (تازة).
يأتي صوت وحيد من جديد:
ـ منيرة بكل ألقها وعبيرها تقف إلى جانبي.
يردد خليل بحبور ظاهر:
ـ إنك ياعزيزي وحيد..حي ترزق في الصورة. تبتسم بسعادة مع منيرة في الصورة.
أطلّ عباس من الصورة وكأنه أنه يخاطب الرجل:
ـ اجل كلنا سعداء في هذه الصورة..سعداء جدا. عٌمتَ مساءا أيها الرجل الطيب!

19/6/2009 ـ الثامنة صباحا


تازة: إحدى النواحي القريبة من كركوك.