لعل الراحل عبد الرحمن منيف، مثله مثل آخرين، حاول أكثر من مرة أن يكشف لغز الطبيعة العراقية الذي أكتسى لنفسه أوشحة الحزن السامي، يتجلى أيما تجل في روح فنيةٍ أدبية مازالت مستمرة تشير، في بعضها، إلى الطبيعة التي نشأ عليها العراق، وهي الطبيعة الميثولوجية كانت قد ساءلت الحياة منذ القدم السؤال الأول عن الموت والديمومة- وهو سؤال تكاد معظم الحضارات قد تساءلته، لكن السؤال العراقي هو السؤال الأعمق والأكثر حساسية. فكتب "أرض السواد" وفيها يقرأ القارئ الإنكسارات المتتالية التي مازال يرويها الشعر وتغنيها الأغاني. وفي إحدى رسائلة إلى "شاكر خصباك" كتب يصف الإنسان العراقي بأنه &يعول على "الحزن، هذا الخطر الداهم والدائم، لماذا هو هكذا وبهذا المقدار ولم اصل الى جواب، الحب والقسوة في نفس الوقت. الرهافة التي تصل الى درجة الذوبان والحدة التي تصل الى درجة استعمال موسى الحلاقة في القتل"

والعراق ليس هو العراق هذا بل هو مكمن الشرق- بلاد الشرق، يكاد يكون ولا أستطيع أن أحدده، يعود إلى زمن من دون أزمنة - والذي قام لا على سلالم التاريخ بل على سلالم أخرى غير مميزة، من المحتمل أنها سلالم روح الأجداد الذين وضعوا رقية غامضة في التراب تسم ساكن الأرض من بعدهم. وإن لم أطأ أرضه في حياتي بالرغم من أن مكان مولدي يبعد عنه 80 كلم. تتصورون كم هو بعيد وغريب وهناك تيهان عنه وبهذا المقدار كان البعد ملمحا من ملامح فقدان الوعي به. استسقاء المنابع من شتى المدن السورية تلجأ إلى أساسيات الحضور التي كانت تتجلى من انعكاسات الطابع العراقي، وحدود هذه المنابع ممتدة ولا نهائية ولا تتعلق بالحدود الوهمية مع سورية. ليس الحب والقسوة بل هناك عامل لا أجد له تسمية أقرب من كلمة" ثقالة" والذي يـُسّكن الإنسان من الداخل فلا يدعه يتحرك. وهي سكنى بمعنى أن التاريخ والميثولوجيا وكل روح الماضي لها الحضور الوجداني وليس الذاكراتي في قلب الطبيعة، تحمل الحزن الذي يتجلى بالفراق والفقدان. وكأن العراق مازال يرثي جلجامش يعود خالي الوفاض من رحلته المفجعة في مجاهل الحياة. وما صورة جلجامش إلا صورة مقلوبة عن ميثولوجيا النزول، وهي بشكل أو بآخر (مغامرة) تجربة إنسانية ثانية وتساؤل عما إذا كانت علامات التسامح والمغفرة قد اتسعت وتجلت بعد الخطيئة الأولى حتى لتجعل من الإنسان أن يعود إلى جناته المفقودة من دون ألم ومعاناة.
هذا الرمز البدئي- النموذج &prototype - الذي يستوطن المخيلة ويحقنها بمعمار رؤيوي إلى ماتكونه الحياة وما تستلزمه كي تستمر على هذا المنوال هو ربما ماجعل العراق يتكبد الخسائر الروحية خسارة تلو خسارة – وهي خسارة إنسانية بشكل عام- أن الطريق طريق مغلق والحال حال مقامر لا يملك سوى القلب الكبير لميدان المجازفة- لا توجد حدود فصل ولا وسط، فهي على الدوام في المفاصل القصوى فإما خسارة كاملة وإما انتصار تام. ومن هنا كانت الرهافة والحدة جنبا إلى جنب، والتقت الصورتان شديدتا التنافر كي تبني صورة وجدانية، تكاد تكون مطلقة وتؤسس لنظام وليس هو بالنظام لحياة العراق.
وهذا ماكان يعتريني حين كانت خطواتي المتعثرة في قلب البادية السورية نحو الحدود تقترب من الصورة المرسومة منذ الصغر في خيالي عما يكونه هذا العالم الغامض بل الجلي، البعيد بل القريب، وهو حالي حين كانت التيارات المتعاكسة لا تهدأ، تتضارب داخل أنظمة العقل كي تستوعب العالم الذي نشأت فيه – وهو بطريقة ما كانت فيه كل الطقوس غير الممتلكة، الطقوس التي حملت الديمومة والاستمرار، وإن على هذه البقعة تحت خطواتي من هذه الأرض البهية كانت الأسرار تشي بالقرابة شبه النهائية، الذاتية المبالغ في ذاتيتها حتى لكأنها تستحضر وتستنطق الروح. وما كان للموت من معنى.
طبيعة الأرض والسمة التي تقوم عليها التربة والخصاصة التي يتسع من أجلها الفضاء هي كلها ما تجعل من وجود الكائن وجودا- ليس بالحياة فقط ذات البعد الوحيد والتي يتبعها بعد ذلك الموت بل الوجود الذي فيه الخلود غير المؤرخ يتحاور مع المكان على أنه صفة. فالموت الذي يبدو للوهلة الأولى يجلجل المكان ويملأ الكيان بتعابير الحزن والفراق لم يكن هو الذي يحضر بالقدر الذي كان لعابر سبيل أن يمر بأرض غريبة عنه، ويلقي نظرة سريعة ثم يغيب وإلى الأبد من دون أن يحمل معه شيئا، فهناك للذي من المفترض أنه مات كيانات وحضور متتال ومستمر. الحضور الذي هو تغلغل ما، ومن هذا المنحى كان الموت في ذهني حادثة مجردة لا تمس الكائن الحي الذي عاش أو يعيش بقدر ما تمس جملة معينات أخرى. وربما كانت إحدى عوامل الحضور والتتالي وغلبة الحياة على الموت هو نوع الحب الذي يحمله الأهالي والذي كان يسمو إلى مستويات لا إضطراب فيها، قريرة مطمئنة، حتى أنني كنت أتخيل أن هؤلاء القوم بيدهم مفاتيح سر الخلود، وبالحب الذي يحملونه في طيات صدورهم &قادرين على إيقاف الموت والتمتع بالحياة الأبدية. كنت أنظر الى الذين في نزاعهم الأخير وإلى الذين يجاورونهم فسوف يضعون عليهم حالا يدا مباركه كي تعود إليهم صحتهم وقوتهم. وهذا الحب أكثر ما يتجلى في دواخل فتاة سمراء تمر على الحي. سحرٌ له عينان تأتيان نحو القلب ولا تدخلانه إلا لكي تأخذانه إلى عوالم ماقبل الولادة، عوالم الرحمة التي يدركها مريض أمضى أياما طويلة بآلام مبرحه وفجأة زالت الآلام ولبس تاج الصحة، هاتان العينان ليستا عيني حب وشهوة إنما عينا ملاك يحوطنا بالأمان ويبعث رقية الخلود. إن عيش لحظات الخلود لثوان أو دقائق كافية كي تتغلب ولمدة طويلة، أطول من وقت الحياة، على ثنائية الموت والحياة. تلك العينان لم تكن سوى لعيون نسوة منذ فجر التاريخ مررن في هذا المكان وتأملن أحبتهم بلهفة شجر النخيل الذي يطرب حين تمر بالقرب منها. يغني حسين نعمة: "نخل السماوة يقول، طرّتني سمرة، سعف وكرب، مابي ثمرة...كل من وليفه وياه، بس ولفي ضايع" وهاتان العينان هما الشريك الوليف-الوعد- الضائع كي يعود ويطري جفاف الروح التي تنتظر – كما في كل مرة- عودة جلجامش. لم يعد جلجامش خالي الوفاض بل عاد وبيده القلب، الرقية، التي مازال يحملها إنسان هذه الأرض يتجول مع رحلة العذاب- من تصدعات هائلة وتجربة مؤلمة تشجب طبيعة الموت بل طبيعة المخلوق الذي لا يني يذيق المرارات لأخيه الإنسان.
&

[email protected]