&
حين نتطرّق إلى موضوع السورّيالية العربية، يحضر فوراُ إلى أذهاننا نشاط جماعة "فن وحرّية" المصرية التي أسّسها الشاعر جورج حنين عام 1938، وننسى أو نتناسى عمداً، ولأسباب مختلفة، الحركة السورّيالية التي قادها الشاعر العراقي عبد القادر الجنابي في باريس بين عامَي 1973 و1975، وضمّت الشاعر اللبناني غازي يونس والمعماري والرسام السوري مروان ديب والشاعر الجزائري فريد العريبي والمترجم العراقي محمد عوض والرسام علي فنجان. حركة سجّلت نشاطاً ثورياً لافتاً سواء في خطابها أو في الوسائط التي اعتمدتها لإيصاله، كما تشهد على ذلك البيانات والكرّاسات وخصوصاً أعداد مجلة "الرغبة الإباحية" التي أصدرتها بانتظام خلال الفترة المذكورة.
ولا شك في أن طبيعة هذا النشاط وقيمة ثماره هي التي دفعت دار L'Asymétrie (عدم التماثُل) الفرنسية إلى رصد أنطولوجيا لتراث هذه الحركة صدرت حديثاً في باريس وتشكّل خير خلاصة لمغامرة شعرية فريدة من نوعها قام بها شبّان عرب جمعهم جوّ التمرّد الذي كان طاغياً في باريس بعد أيار 68، ووجدوا في الحركة السوريالية التعبيرَ الأكثر جذرية عما كانوا يحلمون به من حرية وخيال، فأطلقوا في كانون الثاني/ ديسمبر 1973 العدد الأول من مجلتهم، "الرغبة الإباحية"، التي شكّلت لسان حركتهم.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن إطلاق عدد من الشعراء والفنانين العرب حركة ثورية "منظّمة" تجرؤ على تبني أقصى ما في السوريالية من أفكار إنقلابية، كان شيئاً جديداً آنذاك. فلنأخذ مثلاً النداء الذي أطلقوه وقالوا فيه: "سورياليتنا هي لتدمير ما يسمى بالوطن العربي"، أو "نسخر تفاكهاً من مفاهيم الطبقات الحاكمة القمعية: وطن، عائلة، دين، جامعة، ثكنة، معبد وما شابه ذلك من الغبار الأيديولوجي"؛ نداء لم يفهم معظم النقّاد والصحافيين العرب آنذاك معنى راديكاليته ونبرته الحادّة، بل ذهب بعضهم إلى حد اتّهام أعضاء هذه الحركة بـ "الصهاينة" و"العملاء" على ضوئه، في حين أن ما قصده الجنابي ورفاقه فيه هو تفجير فكرة "الوطن" بالمطلق لاعتبارهم إياها "شتيمة في حق شمولية الإنسان" (بيان 1975)، وبالتالي لتحريرنا من أوطاننا الغارقة داخل حدودها والمنطوية بطريقة مرضية على خصوصياتها الثقافية.
وأبعد من هذه الفكرة، هدف أعضاء مجموعة "الرغبة الإباحية" منذ انطلاقتهم إلى تحطيم محظورات وتمزيق امتثالية سياسية وذهنية متجذّرة في عالمنا العربي، ضمن مسعى يتوق إلى التوفيق بين الشعر والسياسة، لكن من دون الوقوع في خطأ خلطهما، ملتزمين في ذلك بما أوصى به الشاعر السوريالي الفرنسي بنجامان بيريه: "على الشاعر أن يناضل في كل ميدان: في ميدان الشعر بوسائل خاصة بالشعر وفي ميدان العمل الاجتماعي، من دون أن يخلط، أبداً، ميدانَي العمل وإلا عاد الالتباس الذي ينبغي تبديده، وبَطُل (الشاعر) أن يكون شاعراً، أي ثورياً". ولذا جاء شعرهم صافياً، صورياً، وخالياً من أي شعار سياسي: "يا كاسح الألم في الماء المذاب/ في رياضيات النساء والشهوة المرّة/ يا ناسي الحب في لعب الأطفال/ يا محتال بجنس السكين" (فريد العريبي). ومن هذا المنطلق كانت، من جهة، الشعارات المقتضبة والصاعقة والبيانات السياسية والمقالات النقدية المثيرة للجدل والرسوم الكاريكاتورية الانتهاكية، ومن جهة أخرى، النصوص الشعرية. ولا عجب إذاً في قول الشاعر السورّيالي الفرنسي إدوار جاغير في هذه المجموعة: "إنها إحدى أفضل المفاجآت التي صنعتها السورّيالية لنفسها".
أما الأنطولوجيا الصادرة حديثاً فتكمن قيمتها أولاً في جعلنا نعيش مغامرة الجنابي ورفاقه في السبعينات من خلال مختارات واسعة من بياناتهم ونصوص مجلّتهم، تحضر بالشكل الأصلي الذي صدرت فيه، وهو ما يمنحنا أيضاً فكرةً واضحة عن طريقة تصميمهم هذه المجلّة وفبركتها. وفي هذا السياق، يتبيّن لنا أولاً المجهود اليدوي الجبّار فيها، سواء في نقل نصوصها وتخطيطها، أو في تزيينها بالرسوم، كما يتبيّن استثمار تقنية الاختطاف (détournement) على طريقة حركة مبدعي الأوضاع؛ اختطاف قوانين الشرائط المصوَّرة والثقافة الشعبية الأميركية، واختطاف فن التخطيط بالذات عبر إخراجه من هالته القدسية وتوظيفه لتمجيد الحياة البشرية الدنيوية. أما مضمون النصوص النقدية والإبداعية، فيعكس تغذّي الجنابي ورفاقه من قراءات نظرية طلائعية حوّلوها إلى ممارسة حياتية. قراءات لأندريه بروتون وبنجامان بيريه وتيودور أدورنو وكارل ماركس وغي دوبور وكثيرين غيرهم.
وبالتالي، الأنطولوجيا ثريّة بالمواد التوثيقية حول "الرغبة الإباحية"، ولكن أيضاً بمدخل نقدي طويل وضعه الشاعر والباحث الفرنسي مارك كوبير، يليه نصّ تقديمي للجنابي، وهو ما يجعل منها مرجعاً حاسماً في هذه الحركة يصحّح نهائياً كل ما وُضِع من دراسات وأطروحات ومقالات حولها، ومعظمها تشويهي ينمّ عن جهلٍ لمحرّكات وطبيعة نشاط أعضائها، وعن عدم اطّلاع على نصوصهم وأعداد مجلتهم. عدم اطّلاع تسدّه هذه الأنطولوجيا بفصلٍ يحمل عنوان "فهرست الأعداد الخمسة وبعض المنشورات" ولا يقتصر على الأسماء وعناوين المواد، بل يقدّم بالفرنسية مقتطفاً من كل مادة نشرت في أعداد المجلة، ما يسمح للقارئ الذي لم يطّلع على أعداد "الرغبة الإباحية"، بتكوين فكرة دقيقة عن طبيعة المواد المنشورة فيها.
أما اللغة المستخدَمة شعرياً وسياسياً في الأنطولوجيا، فتجعل القارئ الفرنسي لا يشعر بغربة عما تحتويه، نظراً إلى أن النصوص المترجمَة فيها تذكّره بلغة السورياليين والحركات الهامشيّة الفرنسية التي كان لها دور في انتفاضة أيار 1968. وهذا يعكس جهداً كبيراً في الترجمة، بحيث تتّضح التأثيرات الخلفية لهذه الحركات على أعضاء "الرغبة الإباحية" في الترجمة الفرنسية أكثر مما في النصوص العربية الأصلية.&&
يبقى أن نشير إلى أن مغامرة "الرغبة الإباحية" لا تتوقّف عام 1975. فبعد تفرّق أعضائها، تابع الجنابي نشاطه ضمن الروح السورّيالية نفسها لكن دون استخدام صفة السوريالية، فأسّس أو شارك في تأسيس مجلات طلائعية عديدة، مثل "اللحظة" و"الشبكة" باللغة الإنكليزية، و"النقطة" باللغة العربية، قبل أن يُصدِر بين عامَي 1980 و1981 سلسلة جديدة من "الرغبة الإباحية"، صدر منها ثلاثة أعداد تضمّنت نصوصاً معظمها مكتوب مباشرةً بالفرنسية وتعود إلى كتّاب ذوي توجّه سورّيالي أو ينتمون إلى حركة مبدعي الأوضاع أو متأثّرين بـ "مدرسة فرانكفورت".
وفي جميع هذه المجلات، دأب الجنابي على إظهار أن "السورّيالية ليست أنطولوجيا من الصور الغريبة، ولا هي انبعاث للصوفية"، كما ظن البعض، ولا هي عقيدة، بل "طريقة كينونة وحالة ذهنية وكفاح من أجل الحياة الآنية وحرّية بلونِ الإنسان". دأب أيضاً على عدم وضع الشعر في خدمة هذه الثورة أو تلك، لاقتناعه بأن "الشعر، حين يتحقق، هو كل الثورة". قناعة نستشفّها منذ قصيدته الأولى التي يقول فيها: "تعالَيْ يا حربُ/ عانقيني حتّى الثّمالة/ تعالَيْ/ امكثي في ميناء آلامي/ لأُضاجعكِ/ أنا العاشقُ العائدُ من بعيد/ تَعالَي/ فإنَّ الحبَّ هنا صيفٌ باردٌ،/ غيمةٌ ممنوعة". (عن "الحياة")