أولاً - لا يكفي وصف العداء أو النزاع بين الترك والكرد بأنه سياسي فحسب، كما هو الحال في نزاع الكرد مع النظم السياسية العنصرية، العربية أو الفارسية. إنَّ النزاع مع الترك هو أعمق وأشمل من ذلك التوصيف والتعريف. إنه بداهة نزاع مع النظام القوموي الفاشي التركي، الذي صاغ هوية وسلوك الدولة التركية، لكنه أيضاً، في الوقت نفسه، نزاع مع التفكير الشوفيني المتأصل في بنية الوعي الذاتي المشترك للمجتمع التركي، الذي يعتقد في نفسه التفوق العرقي والسيادة. فقد تكرّس هذا الاعتقاد طوال قرن من حروب الإبادة ضد الكرد والأرمن واليونان...الخ بغرض إثبات هذا الشعور، ولهذا ينبغي عدم الاقتصار على وصف هذا النزاع بأنه سياسي فحسب، إنما أكثر من ذلك صراع وجودي، وخاصة حينما يتعلق الأمر بالوجود الكردي. إنَّ العنصرية التي يواجهها الكرد في هذه الحالة، هي ليست مجرد عنصرية ناشئة عن العقل السياسي للنظام أو الدولة فحسب، إنما هي عنصرية المجتمع المدني أيضاً. فالتركي العادي فطم على وعي زائف بأن كمال وجوده يتعلق بمقدار نقص وجود الكردي، وهو يعي نفسه على هذا الأساس. فبمقدار ما هو موجود، هذا أو ذاك الكردي، هو لا يشعر بوجوده كتركي لهذا سعى التركي ويسعى، طوال تاريخه، للقضاء على أيّ وجود للكردي دون هوادة، سواء أكان مادياً أم رمزياً، كي يشعر بوجوده الكامل والممتلئ. مثلما عمد للقضاء على الوجود الفعلي والرمزي للشعوب والأقوام الأخرى كالأرمن والإغريق. أمام هذه الرؤية تسقط خرافة (الأمة الديمقراطية) التي لا تصلح، في الوضع التاريخي الراهن، حتى أن تكون شعاراً لفرقة موسيقية جوالة، للفلاحين المشردين من قراهم. الشوفينية العربية والفارسية هي شوفينية الأنظمة السياسية، بينما الشوفينية التركية هي شوفينية دولة علاوة على شوفينية مجتمع محتقن بالكراهية العنصرية والقلق والخوف من الآخر، الذي لا ترى فيه سوى تهديد وجودي لحضوره على مسرح التاريخ. فقد تشكّل وعي هذا المجتمع بهويته في شرط تاريخي منحرف، غاية في التعقيد، كانت إمبراطوريته المهيمنة والتوسعية، قد أخذت بالتدهور والتفكك، ولم تخلّف وراءها سوى أوهام ذاتية عن التفوق والسيادة، ولهذا وجد نفسه مكرهاً أمام خيار وحيد هو أن يوجدّ لنفسه نظاماً سياسياً قوموياً يتحصن به في مواجهة التهديدات الوجودية، ويكون بمثابة الهيكل المقدس، الذي يصون ويبارك فيه هذه العنصرية التي ورثها عن مصيره القاسي، وعلى الكرد أن يعوا، بالمقابل، هذه الحقيقة في وعيهم القومي.

ثانياً - لا أعتقد أنَّ هناك قومي تركي في هذا العالم، يضع رأسه على وسادته، قبل أن يغفو وينام، دون أن يفكّر في كيفية التخلص من الكرد أو الأرمن أو اليونان. كما لا أعتقد بأن هنالك تركي يستطيع أن ينهض في الصباح دون أن يلعن يومه إذا صادف كردياً أو أرمنياً أو يونانياً. ليس في هذا ما يدعو للاستغراب أو الدهشة، فالعقل القوموي التركي جبل على هذا النحو؛ إنه لا يستطيع أن يتعرّف على نفسه إلا بمقدر شعوره بالكراهية نحو الآخر، الذي يعدّه تهديداً وجودياً ملازماً لوعيه، ولهذا هو يضمر خوفاً وهلعاً نحو وجود هذا الآخر معه في الزمان والمكان نفسه، يزاحمه في وجوده، ولهذا يبدو مستعداً أن يخضع ويقبل عبودية طاغية ومهووس ديني مثل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، طالما أنَّ الأخير يغذّي لديه هذا الشعور بالكراهية للآخر ويعززه.

وهكذا لا يشعر القومي التركي بهويته وبإخلاصه لتركيته إلا بمقدار كراهيته للكردي والأرمني واليوناني، ويسعى في الوقت نفسه للتخلّص منهم، حتى لو أثبتوا وجودهم على كوكب آخر. والحق ان الأرمن أدركوا هذه الحقيقة بعد أن دفعوا ضريبة بشرية وقومية باهظة، وانتهوا في نهاية المطاف إلى تشكيل دولة - أمة من بقايا(هايستان) الكبرى، توأم كردستان، وتخلصوا من وهم التآخي والتعايش مع الترك، وما زال شقيقهم الكردي يطفو فوق تلك الأوهام اللاعقلانية والعاطفية حول التعايش والمساواة في ظلّ عقل يأبى الاعتراف أو القبول بأي اختلاف. فما لم يبادل الكردي التركي المشاعر الوجودية ذاتها، ويعرّف علاقته به، كتهديد يزاحم وجوده التاريخي الأصيل، ويسمو بذلك إلى مستوى الفعل التاريخي والمبادرة، ما لم يقايضه في كرامته وفي استعلائه وغطرسته، ما لم يتخلّص من دونيته نحوه، وبعبارة أخيرة ما لم يعتبره أكثر من مجرد تهديد سياسي يمكن تسويته بالشعارات العاطفية والمجانية عن التعايش والمساوة في ظل سلطة لا تعترف إلا بتفوق وسيادة عرق وثقافة وهوية، فإنَّ وعيه بهويته القومية ووجوده يظلّ ناقصاً ومنحرفاً، ويظلّ هذا الكردي طوال تاريخه أسير شعوره بالدونية نحو الطوراني، ويشكلّ هذا الأمر أحد أكبر ألغاز التاريخ الكردي، الحديث والمعاصر، المحاط بهالة مقدسة، زائفة، عن التآخي الإسلامي بين الكرد والترك، وكان أبرز منتج لهذا الأفيون ومبدع له هو الشيخ الكردي سعيد النورسي، ويواصل الترويج لهذا الأفيون التكايا وأصحاب الطرق الدينية في شمال كردستان. فمتى يفهم الكردي هذه الحقيقة ويسلّم بها؟

إقرأ أيضاً: حول دلالات انتفاضة السويداء ومآلاتها

ثالثاً - ثمة تشابه مثير وملفت بين العنصر الأوروبي الأبيض الذي غزا أميركا، والعنصر التركي الذي غزا كردستان وأرمينيا واستوطنها. فتاريخ كل منهما لا يتعدى السبعمئة عام، وكلّ منهما أقام وجوده وكرّسه على تدمير الحضارات الأصلية العريقة. الأوّل قضى على الأعراق الهندية بعد مجازر وإبادة وقوّض حضارتها ثم نهب ثروات الشعوب الأصلية واستعمر أرضها وسطا عليها. الثاني قوّض تاريخ الكرد والأرمن واللاظ واليونان والبلغار وغيرهم واغتصب ديارهم، ولم تكن حروب الإبادة التي قام بها ضد الشعوب الأصلية أقلّ وطأة وقسوة من تلك التي قام بها العنصر الأبيض ضد الهنود الحمر. إلّا أنَّ الفارق بينهما يكمن في أن الأول استطاع أن يتصالح مع ماضيه، بأن اعترف به واعتذر عن أخطاء آبائه الغزاة الأوائل، وتبرأ من نتائج أفعالهم. وفي أغلب الأحيان انتسب لهؤلاء وعدّ نفسه وريثاً شرعياً للحضارة الهندية، يتباهى بها ويزهو حتى على الحضارة الأوروبية التي خرج منها، فقد تصالح مع ماضي المكان وتاريخ الجغرافيا، في حين أنَّ الثاني، العنصر التركي، مازال يتنازع ويحارب ويستميت ولا يريد أن يعترف بمجازره بحق السريان والكرد والأرمن، أصحاب الأرض والتاريخ الحقيقيين، ويرفض الاعتراف بالحقوق التاريخية للكرد ووجودهم على هذه الأرض، ويحاول على الدوام أن يفتعل صراعاً ونزاعاً بين المستقبل والراهن من جهة أولى والتاريخ الحقيقي للأرض التي استوطنها. لهذا نجد التركي يعيش تمزقاً، قلقاً واغتراباً على الأرض التي سطا عليها واستوطنها قبل خمسمئة عام، ويشكو من تنازع التاريخ مع الجغرافية وتمزق الزمان وتناقضه مع المكان على مستوى الوعي بهما. التركي عاجزٌ تماماً عن الاعتراف بالتاريخ والوضع القائم، ولهذا يتعذر عليه أن يحقق التصالح بينهما. وهذه الخطوة تشترط أمراً أساسياً، تستحق أن نسميها بالمعجزة التاريخية، وهي أن تتنكر تركيا لتركيتها ولعقلها التركي وتتصالح مع المكان، وبخلاف ذلك، فإن مصير تركيا التي تمزّقت للمرة الأولى في بدايات القرن الفائت، وأعيد تشكيلها بلاصق أيديولوجي مصطنع، كولونيالي المنشأ، من أشلاء الهويات العثمانية، ويتامى الإمبراطورية، كالبوسنيين والشركس والألبان واللاظ والأرمن واليونان المتأسلمين... إلخ ستواجه هذه المرة تمزقاً ثانياً قبل أفول هذا القرن، تمزقاً مميتاً تتبدد للمرة الأخيرة والنهائية ما لم تتصالح مع تاريخها وحاضرها الحقيقيين.

رابعاً - العقل القومي التركي عدواني وعنصري بطبيعته، والمجتمع التركي مجتمع عنصري وكاره للآخر، متغطرس ومتعال ضد القوميات الأخرى، لكنه يشعر بالدونية والوضاعة إزاء الغربي الأوروبي، لكنه يسعى للتشبه به والتماثل معه. إنه يعيش في حالة من الاحتقان الدائم والهيجان ضد الآخر المختلف عنه، ويظلّ على قناعة ذاتية بأنَّ العالم كلّه متآمر عليه، يكيد له، ولهذا نجد لديه ردّات فعل عنيفة، قطيعية ومتناقضة ضد الغرباء على (أرضه)، مثلما حدث ويحدث يومياً في جميع المدن التركية ضد اللاجئين والسواح العرب والخليجيين، وضد السوريين واليمنيين والكرد العراقيين!! وعلينا أن نلاحظ أنَّ تلك العنصرية العدوانية لا تبدو معيبة أو منفرّة من وجهة نظره، بل تبدو مطلوبة ومرغوبة كإحدى ميكانيزمات الدفاع عن الذات. فمن أين جاءت تلك العدوانية؟ وكيف نفسّرها إجمالاً؟

العنصرية والعدوانية تعدّ نزوعاً أصلياً في الوعي القومي التركي، المجتمعي والسلطوي، كما أشرنا، مثلما فسّرها سيغموند فرويد عند الإنسان الفرد، كأحد الغرائز الأصلية، وفسّر دورها في تكوين شخصيته. وعادة لا يظهر من هذا النزوع سوى الجزء البسيط منه، الذي يشبه رأس الجليد، فيما يبدو الجزء الأعظم منه في العمق مخفياً، غير ظاهر للعيان، في اللاوعي الباطن وذاكرة نشأة الفرد، بينما يظلّ هذا الفرد في حياته اليومية محكوماً بالوعي الظاهر أو الأنا الأعلى، التي هي منظومة المعايير الاجتماعية والقيم الدينية والأخلاقية التي تستبد بسلوكه وتتحكم به. وهي في حالة الدولة التركية وسلوكها منظومة القوانين الدولية والحقوقية العالمية الظاهرة.

إقرأ أيضاً: منطق الاستعراض في الردّ الإيراني

تفسر الولادة التاريخية المنحرفة للدولة التركية، بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية وانهيارها، العنصرية العدوانية للعقل القومي التركي. إذ تشرح الذاكرة القهرية، التي ساهمت في تكوين العقل القومي، تلك العنصرية العدوانية على منوال النشأة القاسية لطفل عانى من سلوك قهري تجاه الأب الذي نافسه على حب والدته، طبقاً لفرويد. كذلك هو شعور العقل القومي التركي تجاه الغرب، الذي اغتصب إمبراطوريته، ومارس دور الأب القهري عليه في نشأته وتربيته، وهو ما يمكن أن نصطلح عليه اسم (أوديبية طورانية)، إنه يكرهه بمقدار ما يريد أن يتماثل معه ويتشبّه به، وهو يحمل مقداراً هائلاً من المقت تجاه شركائه في التربية والمنافسين له كالعراقيين والسوريين وغيرهم.

العقل القومي والسياسي التركي هو نتاج تلك المرحلة البدائية، التي مرّ بها المجتمع التركي من التفكك والانقسام، وما عاناه من قهر الآخرين وعدم الثقة بهم. ولا يعدّ العرب والأقوام المسلمة الأخرى سوى المجموعات، التي نافست هذا التركي المدلل على حب الطوطم (الأب الأوروبي المكروه) وينبغي عليها أن تكون مجرد قرابين على مذبح الأب.