تهافتت الليبرالية التي رفعت إكونوميست البريطانية لواءها طوال 175 عامًا، فأخذت المجلة على عاتقها طرح الصوت لإعادة إحياء الليبرالية ومثلها. إنه "المانيفستو الليبرالي" الجديد.

في سبتمبر 1843، أسس جيمس ولسن، صانع القبعات في اسكتلندا، مجلة إكونوميست. كان هدفه بسيطًا: الدفاع عن حرية التجارة وحرية السوق وتحديد دور الدولة. كانت هذه الأهداف الرئيسية لفلسفة سياسية جديدة... إنها الليبرالية.

في هذه المناسبة، تعرض إكونوميست لمآلات الليبرالية قائلة إنها اليوم مذهب واسع له مكونات اقتصادية وسياسية وأخلاقية تختلف أهميتها بحسب اختلاف مريديها. فكثير من الأميركيين يربطون الليبرالية بموقف يساري يدعو إلى تدخل الدولة؛ وهي في فرنسا مرادف لأصولية السوق الحرة. لكن الليبرالية تتعرض لهجوم بصرف النظر عن هذه الصيغ، يأتيها ردًا على صعود نخب ليبرالية بحركات شعبوية وسياسيين شعبويين انتصروا بطرح أنفسهم معارضين لهذه النخبة: فوز دونالد ترمب على هيلاري كلنتون، ونايجل فاراج على ديفيد كاميرون، وحركة النجوم الخمسة على مؤسسات الاتحاد الاوروبي في بروكسل.

الصعود المأزوم

نجحت الليبرالية تاريخيًا في إعادة اختراع نفسها، مع البقاء وفية لمبادئها الأساسية: أولها أن المجتمع ساحة صراع، وأن هذه الصراع يتمخض في البيئة السياسية المناسبة عن منافسة وسجال مثمر؛ وثانيها أن المجتمع ديناميكي يمكن أن يتقدم نحو الأفضل؛ وثالثها عدم الثقة بالسلطة خصوصًا شكلها المركز؛ ورابعها الإصرار على احترام الفرد في مواجهة السلطة. من هنا أهمية الحقوق الشخصية والسياسية وحقوق الملكية.

لكن صعود الليبرالية بمبادئها هذه منذ نهاية الحرب الباردة كان صعودًا مأزومًا، بحسب إكونوميست، مشيرة إلى غزو العراق الذي تعترف بتأييده وقتذاك، والتدخلات الفاشلة الأخرى في الشرق الأوسط التي فضحت خطأ العمل العسكري لفرض قيم شاملة. وجاءت أزمة عام 2008 المالية لتكشف عن خطر ترك القطاع المالي بلا ضوابط. وأهمل الاقتصاديون الليبراليون الفئات التي تضررت بحرية التجارة والأتمتة وفشل النظام العالمي الليبرالي في مواجهة التحدي الملحمي للتغير المناخي.

هذه الاخفاقات تعني أن الليبرالية بحاجة إلى تجديد. فعلى الذين يؤيدون الأسواق والمجتمعات المفتوحة أن يتصدوا لخطر الذين لا يقيمون اعتبارًا لأي منها. كما يجب أن يفعلوا المزيد لتنفيذ وعدهم بالتقدم للجميع، أي أن يكونوا مستعدين لإعادة تطبيق مبادئهم على المشكلات القائمة والناشئة في عالم متغير ويمور بالنزاعات.

الاقتصاد أولًا

في هذا الشأن تحديدًا، تؤكد إكونوميست أن في مقدم المشكلات الاقتصادية التي تتطلب معالجة جديدة هي رأس المال الاحتكاري، قائلة إن الإطار الحالي لمكافحة الاحتكار الذي وضع في عقد الثمانينيات لا يصلح للتعامل مع طبيعة تركيز السوق في القرن الحادي والعشرين حيث تصاعدت وتيرة الاندماجات، ويملك مدراء الأرصدة الكبيرة أسهمًا كبيرة في شركات اليوم الكبيرة قد تشجعهم على اكتناز الأرباح، وتواصل الشركات التكنولوجية ربط مزيد من الخدمات بعضها ببعض، في حين أن انتشار الذكاء الاصطناعي سيمنح هذه الشركات مزيدًا من القدرة على جمع كميات هائلة من المعلومات. &

تتوقع إكونوميست أن تبدي الشركات الاحتكارية مقاومة عندية ضد تشديد قوانين مكافحة الاحتكار وتشجيع المنافسة أو إحداث تغييرات في هياكل القوة التي تُبنى في مجال المعلومات مستندة إلى شواهد تاريخية، بينها فشل الليبرالي ديفيد لويد جورج حين كان وزير مالية بريطانيا في عام 1909 في تمرير قانون ضريبة الأرض بسبب معارضة الملاك الكبار. لكن توفير سكن أرخص وخيار أوسع وأسعار أقل وفرص عمل أفضل تبقى قضايا يمكن أن تحظى بتأييد الشعب عمومًا.

ردات فعل

تتابع المجلة أن قدرة الحركات الشعبية على النمو أكثر من أي وقت مضى بمساعدة الإعلام الاجتماعي والجماهيري على السواء هي من السمات اللافتة للعصر الحديث. ومثلما أن هذا أتاح للاستياء من النخبة الليبرالية اليوم أن ينتشر، فإنه قد يتيح لأشكال جديدة من الليبرالية وأفكار جديدة وتحالفات جديدة أن تنتشر أيضًا.

هذا يزيد أهمية إبقاء القطاع الرقمي مفتوحًا وتنافسيًا. وإذا كان وضع حواجز أمام خلق الثروة عملا سيئًا فان الشركات التي تقيد حرية التعبير والنقاش المفتوح وتقرير المصير أو تشوه هذه الحريات مشجعة العداوات انما هي اسوأ كثيرًا.

تنتقل إكونوميست إلى موقف الليبرالية من الهجرة قائلة إن العقود الماضية شهدت زيادة في أعداد المهاجرين بين البلدان الأوروبية عمومًا، فيما هاجر الملايين من اوروبا عابرين الأطلسي إلى أميركا ومئات آلاف الصينيين عابرين المحيط الهادئ إلى الوجهة نفسها. وأعقبت هذه الموجات ردات فعل معادية للغرباء والمهاجرين.

دولة الرفاهية!

اليوم، نحو 13 في المئة من الأميركيين مولودون في بلدان أخرى. في العديد من البلدان الاوروبية ارتفعت نسبة المولودين في بلدان أخرى إلى 19 في المئة في السويد و11 في المئة في ألمانيا و8.5 في المئة في إيطاليا.

تسببت ردات الفعل المعادية للمهاجرين في صعود أنظمة غير ليبرالية في وسط اوروبا وكانت الاستجابة لردود الأفعال هذه من الاسباب الرئيسية وراء فوز ترمب وحصول بركسيت.

لكن الليبرالية الحديثة تتخذ موقفًا ينسجم مع المبادئ التي ينص عليها الإعلان العالمي لحقوق الانسان، على الرغم من أن هذا الموقف يضع الكثير من الليبراليين في مواجهة الكثير من مواطني بلدانهم. وعلى المدى البعيد ستقبل المجتمعات التعددية بمزيد من التعددية وعلى المدى القريب يخاطر الليبراليون بإضعاف حرية الحركة إذا أصروا على تجاوز حدود البرغماتية، بحسب إكونوميست.

تتناول المجلة قضية العقد الاجتماعي والليبرالية قائلة أن وليام بيفريج مهندس دولة الرفاهية بعد الحرب العالمية الثانية في بريطانيا كان ليبراليًا. وتشير إلى أن دولة الرفاهية توفر شبكة أمان اجتماعية ضد الجوانب القاسية للرأسمالية مع التشديد في الوقت نفسه على المسؤولية الفردية، وتعزز الحرية وتدعم المشروع الحر وتفتح آفاقأ اوسع للتقدم أو هذا ما كان موقف بناتها الليبراليين وما يجب أن يحرص على توكيده ليبراليو اليوم. والمطلوب الآن اصلاح انظمة الرعاية الاجتماعية والأنظمة الضريبية بما يواكب متطلبات القرن الحادي والعشرين بتشجيع ما يحتاج المجتمع إلى مزيد منه وإبعاد ما يضر به.

النظام الليبرالي

تقول إكونوميست إن الأمر نفسه يصح على الابتكار الآخر بعد الحرب إلى جانب دولة الرفاهية، وهو النظام العالمي الليبرالي، داعية إلى الحفاظ عليه مع الاشارة إلى أن الحفاظ عليه ربما اصعب من بنائه في غياب بعبع اشتراكي أو شيوعي يوحد الليبراليين في مواجهته.

جيوسياسيًا، تقول المجلة إن المُثُل الليبرالية لا قيمة لها إذا لم تكن مدعومة بقوة عسكرية. فالقدرات العسكرية عامل حاسم وبها يمكن استثمار آليات السلام إلى الحدود القصوى، بحسب المجلة منوهة بأن الاقتصادات الكبيرة في القرن الحادي والعشرين على درجة عالية من التكامل والمكاسب كبيرة من تعاونها لاصلاح المنظومة التجارية والاقتصادية القائمة على قواعد واضح واستدامتها. وبهذه الروح يجب الترحيب بطموحات الصين لجعل اليوان عملة دولية لأنه يسهم في زيادة انفتاحها الاقتصادي. لكن القوة التي تخدم هذا الهدف لا يمكن أن تكون عسكرية محضة أو اقتصادية بحتة بل يجب أن تكون قوة القيم الليبرالية ايضًا، كما ترى مجلة إكونوميست.

إعادة تفكير

في الختام تقول مجلة إكونوميست أن العقد الاجتماعي والمعايير الجيوسياسية التي تقوم عليها الديمقراطيات الليبرالية والنظام العالمي الذي يديمها لم تُصنع لهذا القرن وان الجغرافية والتكنولوجيا اوجدتا مراكز جديدة للقوة الاقتصادية. والعالم المتطور والعالم النامي على السواء بحاجة إلى أفكار جديدة لبناء دولة رفاهية افضل وأنظمة ضريبية أحسن. ويجب أن يُعاد تحديد حقوق الأفراد في الانتقال من بلد إلى آخر. وتتطلب لامبالاة أميركا وصعود الصين إعادة تفكير في النظام العالمي، على الأقل للحفاظ على المكاسب الهائلة التي حققتها التجارة الحرة.

هكذا تحتفل مجلة إكونوميست بمرور 175 سنة على تأسيسها بحذر وتفاؤل وهدف، بحذر لأن حجم الاصلاحات المطلوبة وضرورتها الملحة لم يستوعبها عدد كاف من الحريصين على استمرار القيم الليبرالية في الازدهار، وتفاؤل لأن هذه القيم تحتفظ بصحتها اليوم أكثر من أي وقت مضى، وبهدف لأن لا شيء يخدم الليبرالية أكثر من المنافسة المحتدمة بين ذكاء يدفع إلى الأمام وجهل يعرقل التقدم. &

أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن "إكونوميست". الأصل منشور على الرابط:
https://www.economist.com/essay/2018/09/13/the-economist-at-175