إذا كان هناك وقت يمكن فيه لمسؤولي الاستخبارات الأميركية أن يتعاطفوا مع نظرائهم الروس، فهو الآن، في أعقاب الهجوم المروع على رواد الحفلات الموسيقية في موسكو قبل أيام

إيلاف من بيروت: إن الشعور بالفشل والإحباط الذي يشعر به المسؤولون الأمنيون الروس مألوف للأميركيين الذين كانت مهمتهم اكتشاف ومنع هجمات 11 سبتمبر التي شنها متطرفو تنظيم القاعدة على الولايات المتحدة، بحسب ما يقول المحلل الاستخباري الأميركي جورج بيبي في موقع "ريسبونسيبل ستايتكرافت".

بحسبه، يتساءل الجمهور الأمريكي المصدوم عن سبب فشل الاستخبارات في "ربط النقاط" التي كان يمكن أن تكشف المؤامرة. حتى أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اتصل هاتفياً بالرئيس جورج بوش قبل أيام قليلة من الهجمات ليحذره من أن الاستخبارات الروسية رصدت علامات تشير إلى وجود هجمات إرهابية وشيكة: "ثمة شيء يجري الإعداد له منذ وقت طويل، آت من أفغانستان".

في أعقاب هجوم موسكو، سخرت الكثير من وسائل الإعلام الغربية من الحكومة الروسية بسبب فشلها في الاستفادة من تحذير أميركي مماثل من هجمات محتملة على حفل موسيقي أو أماكن عامة أخرى. لكن تجربة 11 سبتمبر أظهرت أن "ربط النقاط" أسهل كثيرًا عند النظر إلى الماضي، وأن ترجمة التحذيرات إلى تدابير أمنية فعالة غالبًا ما تكون مسعى معقدًا. يقول بيبي: "الواقع أن بوتن أعلن علناً بعد التحذير الأميركي أنه يضع الأجهزة الأمنية الروسية في حالة تأهب قصوى، على الرغم من وصف ذلك التحذير بأنه استفزاز".

ضغوط هائلة
يستطيع المحللون الأميركيون أيضاً أن يقدروا الضغوط السياسية والنفسية الهائلة التي يتعين على نظرائهم الروس أن يواجهوها الآن. هناك ميل بشري واسع النطاق لمحاولة التوفيق بين الأحداث الجديدة والروايات الموجودة مسبقًا، فضلا عن إرجاع الصدمات الكبيرة إلى أسباب كبيرة. يقول بيبي: "في حالة 11 سبتمبر، دفع حث البيت الأبيض وكالة الاستخبارات المركزية على الحصول على أدلة تربط تنظيم القاعدة بالعراق، الأمر الذي كان لفترة طويلة بمثابة عدو مكروه لكبار المسؤولين في إدارة بوش - ليس في محاولة واعية لتشويه الكتب، ولكن من باب الاقتناع الصادق. ولا يزال بعضهم يعتقد بوجود تورط عراقي، على الرغم من الاستنتاج الذي توصلت إليه لجنة 11 سبتمبر بأنها لم تر أدلة تشير إلى أن العراق تعاون مع القاعدة في تطوير أو تنفيذ أي هجمات ضد الولايات المتحدة".

على الرغم من أن بوتين لا يلوم أوكرانيا صراحةً على الهجوم على الحفل الموسيقي، فقد أكد أن المشتبه بهم الطاجيك المحتجزين لدى روسيا حاولوا الفرار عبر الحدود الأوكرانية، حيث زُعم أن الأوكرانيين "أعدوا نافذة" للهروب. ويظل من غير الواضح إذا كان هذا التأكيد صحيحا، وإذا كان بوتن يصدقه. مع ذلك، واضح أن الكرملين يميل إلى البحث عن أدلة تربط الهجوم بأوكرانيا ومؤيديها الغربيين، ما من شأنه أن يساعد في صرف اللوم عن الفشل في نزع فتيل المؤامرة وتلبية الحاجة النفسية إلى ربط شر عظيم بأشد خصم مباشر.

إغراء شديد
نظراً لهيمنة بوتين على الحكومة الروسية، وانعدام ثقة روسيا العميق في أوكرانيا والولايات المتحدة، فسوف يجد المحققون إغراءً شديداً لربط النقاط في هذه القضية بطريقة مناهضة لأوكرانيا والولايات المتحدة بشكل خاص. ويمكن النظر إلى التحذير الأميركي قبل الهجوم والإصرار السريع بعد الهجوم على أن أوكرانيا ليست متورطة على أنه "علامة على أن واشنطن كانت تحاول إخفاء مؤامرة كييف، وليس دليلاً على أن الاستخبارات الأميركية كانت تتعقب تورط داعش منذ البداية"، بحسب بيبي.

يضيف: "ممكن أن ننظر إلى اختيار المنفذين الطاجيكيين ليس باعتباره عملية زائفة فحسب، بل أيضاً باعتباره عملية تهدف إلى تسميم المواقف الروسية تجاه المهاجرين والعمال من آسيا الوسطى، الذين كان عملهم حاسماً في معالجة نقص العمالة الروسية الناجم عن متطلبات حرب أوكرانيا. إن أحد الحوافز العديدة التي يقدمها الكرملين لإلقاء اللوم على أوكرانيا قد يكون في واقع الأمر التقليل من احتمالات ارتكاب مذابح علنية ضد سكان آسيا الوسطى".

يسهل أن نتصور أن رغبة روسيا في الانتقام ستكون هائلة في ردة الفعل العاطفية المفرطة على الهجمات التي وقعت على الحفل الموسيقي. ومؤكد أن الحاجة إلى الانتقام كانت قوية في الولايات المتحدة في أعقاب أحداث 11 سبتمبر، ما دفع واشنطن إلى رفض عروض طالبان بتسليم أسامة بن لادن ثم استكمال عمليتها العسكرية في أفغانستان بغزو العراق. ويقول أحد المسؤولين الأميركيين السابقين : "أردنا الانتقام، فقد ارتكبنا الكثير من الأخطاء".

انتقام موسكو
ما هي الأشكال التي يمكن أن يتخذها هذا الانتقام في روسيا؟ إن سلبيات الهجمات الانتقامية في آسيا الوسطى ستلوح في الأفق بالنسبة إلى موسكو التي تشعر بالقلق إزاء احتمال فقدان نفوذها في مناطقها الحدودية لصالح الصين أو الغرب. وسيكون الهدف الأكثر إغراء هو أوكرانيا، حيث يمكن الجيش الروسي أن يشن ضربات جوية ضخمة على المناطق السكنية في كييف أو غيرها من المدن الكبرى، وهي الخطوة التي تجنبها بوتين إلى حد كبير حتى هذه المرحلة من الحرب. ويكاد يكون مؤكدًا أن شهية روسيا للتوصل إلى تسوية وسط، والتي تضاءلت بالفعل بما يتناسب مع نجاحها المتزايد في إنهاك القوات الأوكرانية، سوف تتراجع بشكل أكبر إذا اقتنع الروس بأن أوكرانيا هي التي دبرت الهجوم الموسيقي.

يختم بيبي مقالته بالقول: "إن المشاعر الدنيئة، والتصورات الخاطئة، وانعدام الثقة التي غذاها الهجوم على الحفل الموسيقي، تؤكد خطورة العلاقة بين الولايات المتحدة وروسيا. إذا كان المسؤولون في موسكو وواشنطن غير قادرين على إدارة مسألة واضحة مثل واجب التحذير من مخطط إرهابي يرسمه عدو مشترك، فكيف يمكننا أن نتوقع منهما نزع فتيل المخاطر المتمثلة في احتمال تصاعد صراع غير مقصود بشأن أوكرانيا إلى صراع مباشر.. نووي؟