سميرة المسالمة

أسست تركيا عبر ورقتها البيضاء للحل في إدلب (تموز / يوليو 2018) لتفاهمات غير مشروطة مع الجانب الروسي ، رغم النقاط التي تضمنتها، والتي توحي بمطالب تركيا في الحفاظ على هيمنتها المطلقة على منطقة خفض التصعيد الرابعة، والتي تضم أجزاء من أرياف حماه واللاذقية وحلب وإدلب المدينة وريفها، وتعهدت من خلال ورقتها أن تلزم جميع الفصائل- ومن بينهم جبهة «النصرة»- على تسليم أسلحتها الثقيلة والمتوسطة، ويتم من خلال تجميع عناصر الفصائل و «النصرة» الذين يقبلون بإذابتهم في تشكيل ما سمي «الجيش الوطني»،

وتضمن تركيا مقابل الموافقة على مقترحاتها فتح طريق حلب– دمشق، إضافة إلى تقديم كامل الخدمات للمنطقة، ما يعني نزع أسباب العملية العسكرية للنظام في إدلب وفق ورقة بيضاء، قابلة للكتابة عليها من كل الأطراف المعنيين بما فيهم النظام السوري.

ومن خلال ذلك يمكن فهم زيارة وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف لتركيا الأسبوع الماضي، بالإضافة إلى مناقشة المتغيرات الدولية الحالية، والمتمثلة بالموقف الأميركي، واجتياحه إلى اقتصادات كل من البلدين إضافة إلى إيران، على أنها جلسة عمل في مقدمة جدول أعمالها «إعادة صياغة الورقة البيضاء التركية»، لتصبح ملونة بالحبر الروسي، الذي يرفض المساومة على ادماج «النصرة» كطرف في أي تسوية قادمة، حيث يتناقض ذلك مع بنود اتفاقات أستانة، التي تسمح للنظام السوري بشن هجماته على أي تواجد إرهابي في سورية. ما يعني أن بياض ورقة تركيا، لم يجعل من رغبتها في تمييع قضية انهاء النصرة تمر على متلقيها الفاعلين في الملف السوري، ما احتاج إلى أن تطلب روسيا وضوحاً أكبر من تركيا في ما يتعلق بملف «النصرة» ووضعها على قائمة الإرهاب علناً وبالتسمية الصريحة، والذي يفترض أن أنقرة تجاوزت المهلة الممنوحة لها حول ذلك، ما استدعى أن تحاصر قوات النظام إدلب بقصف متعمد، ومدروس، يدفع السوريون ثمنه ضحايا وأمناً، ويسبق زيارة لافروف إلى تركيا، ويمكّنه من إجراء حوار ملزم لتركيا، لإعلان موقف يعد هو الأول من نوعه، تجاه ما سماه الوزير التركي (مولود جاويش أوغلو) الثلاثاء الماضي إرهابيين في إدلب يصعب ضمان أمنها في ظل وجودهم.

فتركيا التي تجنبت خلال السنوات الماضية إعلان موقف معاد لجبهة «النصرة»، أو تصنيفها بالإرهابية، وكذلك فعلت كيانات المعارضة السورية السياسية والعسكرية، التي ترعاها تركيا بدءا من المجلس الوطني إلى الائتلاف ودائرته الإعلامية والمتحدثين باسمه، مروراً بفصائل الشمال السوري، وأخيراً الشخصيات المحسوبة على تركيا في هيئة التفاوض، حيث في كل مرة يكون الحديث فيها عن جبهة «النصرة» يذهب المتحدثون عن هذه الكيانات إلى مرادفة «القاعدة» كقوة متطرفة من دون الإشارة إلى النصرة، وتسميتها اللاحقة «هيئة تحرير الشام».

إلا أن إعلان المجلس الإسلامي عبر بيان مفاجئ بداية عام (2017) موقفه من الجبهة ، هيأ المناخ المناسب للائتلاف لاستصدار بيان هو الأول أيضاً يسمي «النصرة» كفصيل متطرف تيمناً ببيان المجلس الإسلامي، الذي هو أحد مصادر مرجعية القرار غير المنظور داخل «الائتلاف»، وتحت الضغط الدولي عليه لقبوله بين كيانات المعارضة المشكلة لوفد التفاوض مع النظام، ولم يبادر الائتلاف إلى اصدار أي موقف واضح من النصرة، على رغم موجة انسحاب أعضاء منه بداية عام 2017 بعد خسارة حلب غير المبررة، والتي كانت بسبب تعنت الكتلة الداعمة لبقاء الموقف غائماً من «النصرة»، ورفضها استصدار موقف واضح من الأعمال الإرهابية لها في سورية، ما يعني بوضوح أن مرجعية الائتلاف لم تكن يوماً هي مجموع إرادات أعضائه، الذين طالبوا بأكثرية واضحة في اجتماعات الهيئة العامة المتتالية خلال عام 2016 بفصل العمل المسلح لمقاتلي فصائل المعارضة عن جبهة «النصرة»، والذي نتج عنه خسارات متلاحقة كان أوضحها تسليم حلب للنظام السوري.

تأكيد لافروف لجزئية حق النظام السوري بشن الحرب على جبهة «النصرة» خلال مؤتمره الصحفي مع نظيره أوغلو في أنقرة، يعني أن التفاهمات النهائية حول إدلب لا تزال مؤجلة، وهي تفهم على أنها لغة تهديد، كما يمكن ان تفهم على أنها مجرد غطاء، لـتعطيل أي حلول حالية تتفرد بها الولايات المتحدة الأميركية، في ظل انشغالات الدول بتدهور اقتصاداتها، وكل ذلك مرتبط بشكل مباشر في قدرة تركيا على استمرار ربط قرار جميع الفصائل المسلحة في الشمال بالإرادة التركية المطلقة، لتوفير الجهد على روسيا في التعامل مع عشرات الفصائل، وذلك لعقد التسويات الخاصة بالقبول بمسار «سوتشي» بديلا من جنيف ضمنياً، وبذلك تتمكن روسيا من السيطرة على الوضع الميداني والتفاوضي، بمواجهة الرغبة الغربية التي تساندها الولايات المتحدة الأميركية.

وهكذا تبقى إدلب ملفاً مشتركا(روسياً- تركياً) قابلاً للانفجار في حال استمرت الإدارة الأميركية بالضغط على موسكو للوساطة مع النظام بحل قضية الأكراد التي تخشى تركيا أن تكون على حسابها وتصفها بأنها تمس الأمن القومي، ومخاوف تركيا من دستور سوري جديد يضمن لهم حكماً ذاتياً يهدد مناطقها الحدودية، ويستخدمها النظام كسلاح ضدها، ما يجعل التفاهم مع روسيا في شأن القضاء على إرهاب «النصرة» ضمن حدود الحل المشترك مقابل ضمان ماتريده حول أكراد سورية، الأسلم للطرفين، والأكثر ضماناً لبقاء طرف الخيط ممسوكا بيد روسيا من جهة، وتركيا من جهة مقابلة.

ويستخدم كل من النظام وروسيا وكذلك تركيا ملف اللاجئين كمبرر ومسوغ للعمليات العسكرية والتفاوضية باتجاهين: أولهما، داخلي لبسط سيطرة النظام على كامل مناطق سورية، تحت شعار تأمين الخدمات اللازمة لإعادة اللاجئين السوريين إليها، من الدول الأكثر تضرراً في محيط سورية (لبنان، الأردن، تركيا)، وثانيهما، خارجي يبدد مخاوف الغرب من موجات جديدة من اللاجئين، التي يمكن أن تكون معركة إدلب سبباً مباشراً فيها، بسبب الكثافة البشرية، وتوجسات الغرب من الوضع الايديولوجي لبعض السكان الذين وقعوا تحت حكم جبهة «النصرة»، ودرسوا مناهجها التعليمية، وهو ما يمكنه أن يفسر الاجتماع الرباعي المقبل لكل من تركيا وروسيا وألمانيا وفرنسا حول إعادة الإعمار لعودة اللاجئين.

إن قبول تركيا الترويج لفكرة عدم ضمان أمن إدلب لوجود إرهابيين من دون تحديد من تقصد، بل والمطالبة «بتحديد الإرهابيين ومحاربتهم» كفئة معزولة، لا يعني استمرار دفاعها عن «النصرة» وتحديدها كجهة مقصودة بالحرب، بل توسيع دائرة الشك، لتشمل كل من تسوغ له نفسه الخروج عن بيت الطاعة التركي في أي ملف تسوية ترتأيه ضماناً لمصالحها، حتى ولو كان على حساب تسليم كامل منطقة خفض التصعيد الرابعة بكل مساحتها للنظام من دون أي عملية عسكرية.

* كاتبة سورية