&فايز الشهري

التاريخ لا يكذب، فلا تصدق كل ما ورد في كتب التاريخ حتى وإن ترسّخت بعض الروايات وشاعت وتداولها المؤلفون والناس، يستوي في هذا الاستنتاج بعض ما كان يعتبر حقائق تختص بالوقائع أو في سيرة الأشخاص أو حتى في العلوم، ومن أسباب ذلك أن كتب التاريخ ترصد زمنها وفق المتاح من المعلومات ناهيك عن أن التاريخ في مجمله صناعة بشريّة، وقد تميل مع هوى الطائفة والعصبة ونقائص (البشر) ممن يتصدّون لكتابة التاريخ.

ولو تأمّلنا التاريخ الإسلامي لوجدنا كثيراً من الروايات المتضادّة تماماً فيما كتب من سير بعض الرموز التاريخيّة ووضوح تأثير الميول والأهواء على حساب الحقيقة، ولو قرأت في التاريخ عن شخصيات مثل معاوية بن أبي سفيان في الدولة الأمويّة، وهارون الرشيد في الدولة العباسيّة لوجدت المتناقضات حاضرات. وهذا لا يقتصر على هاتين الشخصيتين فقط بل يتعدى ذلك إلى معظم الرموز. وتلحظ مثل ذلك جليّا في سيرة شخصيّة مثل الحجاج بن يوسف بين كتبٍ تاريخيّة صورته قائداً عابداً وأخرى رسّخت عنه صورة الطاغية الجبار الذي لا يستنكف من قتل خصومه في المسجد.

ومع ثورة المعرفة وحريّة الوسائل التي أدت إلى تنوع المصادر وتواصل الشعوب واللغات بدأت تظهر معلومات وتحليلات فاحصة تحاول مراجعة بعض ما ترسّخ من حقائق وقصص كانت شبه مستقرّة في أذهان طائفة كبيرة من الناس ردحاً من الزمن. منها مثلاً نفي صحة قيام طارق بن زياد بحرق سفنه وهو يتوجه لفتح بلاد الأندلس مردداً: «البحر من ورائكم والعدو أمامكم». وذات الحال ينطبق على روايات تاريخيّة حقّقها محقّقون حول قصص ووقائع شهيرة رويت عن الخليفتين عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وتبيّن أنّها في معظمها صناعة محبين وكارهين وكذّابين وضّاعين. والإشكال أن بعض القصص التاريخيّة الموضوعة اكتسبت على مر الزمن سلطة التاريخ وأي نقض لها أو تصحيح لبعض تفاصيلها يثير عوام الناس وخواصهم، ومن هنا كانت مهمة مراجعة التاريخ مهمة غير يسيرة.

وهذه الحال ليست في واقعنا العربي فقط، بل حتى عند أهل الغرب والشرق. حيث نجد كثيرين في إيطاليا يصرون على أن مواطنهم «كرستوفر كولومبوس» هو مكتشف أميركا على الرغم من ظهور وثائق تقول إن الفايكنغ سبقوه أوروبيا والصينيين آسيوياً، إضافة إلى ظهور قرائن تقول إن عرب الأندلس سبقوا الجميع كونهم وصلوا شواطئ أميركا قبل كولومبس بـ 500 عام.

وفي فرنسا ما زالت توصم الملكة «ماري أنطوانيت» بالفساد والجهل ويستشهدون بقصة لها مع الجياع المتظاهرين حول قصرها وهم يطلبون توفير الخبز زاعمين أنها قالت «ولماذا لا يأكلون الكعك»؟ إذ تكشف وثائق ظهرت فيما بعد أن القصة مختلقة تماماً وأن هذه العبارة وردت في أحد كتب «جان جاك روسو» وماري أنطوانيت في العاشرة من عمرها. وقائع التاريخ تقول إن ناشطي الثورة الفرنسيّة روّجوا هذه القصّة لتهييج العوام وإثارتهم عليها وهي حملة سهّلت اعتقالها وإعدامها بعد شهر من إعدام زوجها الملك لويس السادس عشر بالمقصلة.