كان نابليون أحد أهم الاستراتيجيين في التاريخ. لكن لا يكفي أن تكون ذكياً، أو حتى عبقرياً. أدرك أنه لن يستطيع إلحاق الهزيمة ببريطانيا إذا ما هاجمها عبر البحر، فجاء يقاتلها في مصر سعياً وراء الجائزة الكبرى؛ الهند. حسب للحملة المصرية كل الحسابات: عدد الجنود، عدد المدافع، عدد المراكب، والمؤن، والذخيرة... وكل شيء! إلا شيئاً واحداً: الطاعون.

بعد الإسكندر المقدوني، ظن كثيرون أن الهند حلم ممكن. وزاد في احتماله وصول الفتح الإسلامي إليه، ناسين القرب الجغرافي وبأس العرب. وحتى كريستوفر كولومبوس حلم بالهند، ولكن من دون مدافع. ولما ضاع في البحر، وجد نفسه يحط على شاطئ العالم الجديد والقارة التي سوف تسمى «أميركا». وبدل الهنود السمر وجد في انتظاره الهنود الحمر.

ذهب الأوروبيون، بكل فئاتهم، يطلبون الهند أو سواها: البريطانيون، والألمان، والفرنسيون، والهولنديون... والعرب. وبقي الهنود أنفسهم في ديارهم. ولست أعرف سر ذلك. ولا أعرف كيف تقبَّل الهنود النظام الديمقراطي واحترموه وعملوا به، مع أنهم زمن الاستقلال كانوا في بؤس التخلف والأمية والجوع.

حاربوا فقط في جيوش الآخرين، وطارت شهرتهم بصفتهم مقاتلين، أما هم فظلوا خلف الحدود يكتفون بردّ الغزاة أو إطاعتهم. وما بين الشجاعة العسكرية والروح السلمية، تميزوا جداً ضمن القوات الدولية لحفظ السلام، بوصفهم محايدين.

وحتى في السياسة طلبوا الحياد ولم يحاولوا فرض شيء على أحد. وكانت مشاعرهم مع الاتحاد السوفياتي، لكنهم خبأوها تحت ستار «عدم الانحياز». وأقنعوا العالم الثالث برمّته، بأن الخيار الأنسب للفقراء هو ألا ينسحقوا في صراع الأقوياء. وظلوا سنين طويلة خارج شهوات العالم الاستهلاكي، قانعين بما هم فيه، يتشاركون أعجوبة الصبر، وينامون على الأرصفة، ويتشاركون بالآلاف سلالم القطارات ونوافذها.

من يطيعون في ذلك؟ لا أدري. ليس الحزب الواحد، ولا شرطة الـ«كي جي بي»، ولا الرقي السويسري... لكنهم يتجلون في أعجوبة الصبر. الفوارق الاقتصادية بينهم بلا حدود... والفوارق الاجتماعية، والعلمية، والعرقية، لكنهم ينضوون؛ مليار بشري، ضمن قانون واحد، ونظام ديمقراطي واحد، ومسيرة تقدم واحدة.

ما سرّ الهند؟ لن تفشيه لأحد. ربما لأنه ليس من سر واحد. وفي أي حال، عاد نابليون من مصر فاشلاً رغم ما حققته بعثته العلمية من كشوفات.