&خالد العضاض& &

الفلسفة في مفهومها القديم بحث يفضي إلى معرفة واثقة ومتيقنة بالحقيقة المبحوث عنها، وهذا لب الفلسفة حتى يومنا هذا مع التطور الكبير في النظريات والتطبيقات

في حوارٍ مع ريبيكا غولدستين، ترجمته الأستاذة نوال الراجحي لموقع حكمة 2016، بعنوان: لمَ ندرس الفلسفة؟ قالت ريبيكا جملًا تلخص هدف هذه المقالة: «... أكثر ما كان يجذبني للفلسفة هو مقدرتي على الاطلاع في شتى المجالات من خلالها. يوجد في أغلب المجالات جزء مرتبط بالفلسفة، مثل: فلسفة اللغة، وفلسفة السياسة، وفلسفة الرياضيات. كل ما كنت أطمح لمعرفته، استطعت الوصول إليه من خلال الفلسفة».
كنت أود أن أبين أهمية الفلسفة من خلال تعريفها فحسب والحديث حولها، لاعتقادي أن التعريف المجرد الواضح والمفهوم البعيد عن التعقيد، والاختلافات فيها بين الباحثين والفلاسفة هو أقرب ما يجلّي حقيقة هذا العلم للمتلقين العاديين الذين يحاربون تدريس الفلسفة لأبنائهم اعتمادا على مقولات أعداء الفلسفة وافتراضاتهم القائمة على الجهل شبه التام بهذا العلم الشريف المفيد الماتع.
الفلسفة من وجهة نظري -البسيطة- اكتشاف وليست اختراعا، لأنها ببساطة خلقت مع الإنسان، ووجدت معه، فهي آلية عمل العقل والإدراك، وهي المخولة باستقبال المعارف والعلوم والخبرات عبر منافذ الوعي الثلاثة المعهودة: السمع والبصر والفؤاد، وهي الأداة الوحيدة في عقل الإنسان الموكل إليها مهمة تحليل تلك المعارف والعلوم والخبرات وفرزها وإعادة إنتاجها أو تصديرها أو إهمالها وتجاهلها، حسب المؤثرات التي تكتنف حياة الإنسان وعاداته وسلوكه وأسلوب معيشته وتعليمه.


حتى جاء بعض أذكياء البشر فحاولوا اكتشاف أمر هذا القانون الذي يسير عليه العقل وتجلية غموضه وطريقة عمله، لتسهيل عملية تعميم التجريب الناجح، وتكثيف الخبرة المكتسبة، وتعميقها وتوسيعها.
ونظرا لجهل الإنسان كطبيعة وجبلة جبلهم الله عليها، زادت الفلسفة وتضخمت وأضحت -كما نرى اليوم- علوما ونظريات وتطبيقات أكبر وأكثر من أن تحصى، ليس لتطورها فحسب، وإنما لكثرة النقاشات والشروحات، وصراع النظريات مع النظريات، والنظريات مع التطبيقات، والمعارضات التي تأتي للفائدة مرات قليلة وللمشاغبات مرات عديدة.
وكانت بدايات الفلسفة الأولى في دويلات المدن الإغريقية في «أيونيا» على ساحل آسيا الصغرى فيما يعرف اليوم بتركيا في المناطق المجاورة لأزمير تحديدا، بحدود عام 600 ق.م، كما يقول آرثر هيلاري آرمسترونغ في كتابه الفاره: (مدخل إلى الفلسفة القديمة)، وكان دافع الفلسفة حينها التعجب والفضول والتطلع إلى معرفة حقيقة الأشياء والمعرفة للمعرفة، وهو ما كان يسميه أرسطو بداية كل فلسفة، وكان السؤال الأيوني حينها كما ذكره آرمسترونغ: إني لأتعجب لمَ تكون الأشياء على ما هي عليه، ولماذا تحدث كما تحدث؟


البداية الثانية للفلسفة جاءت بعد سقوط «أيونيا» على يد الفرس، وانتقالها إلى المدن الجميلة والقوية مدن الإغريق جنوب إيطاليا وصقلية في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، واختلفت منازع البحث عن الحقيقة في هذه المرحلة ودوافعه، وانتقلت إلى دافع جديد وهو الرغبة في التأله، أو التشبه بالإله إلى أقصى حد، وتحول السؤال الإيطالي إلى: «أَنَّى لي أن أنقذ نفسي من جسد هذا الموت، ومن مركبة الأحزان في الوجود الفاني، وأصير إلهًا مرة أخرى؟»، ولعل الفهم الملتبس لمثل هذا السؤال هو ما جعل الفلسفة محرمة عند الأصوليين النصوصيين، فمسألة طلب التأله هنا -حسب فهمي القاصر أولا ثم تحليلي- لا يمكن تفسيرها بأنها طلب للألوهية، ولا يمكن فهمها إلا وفقا لمسألة البحث الدائب والطلب المستمر للوصول إلى النموذج البشري الأول الكامل الذي كان عليه أبونا آدم -عليه السلام- قبل حادثة الشيطان، وبعد سكنى الجنة، وتفضيله على الملائكة أجمعين، وهي الحالة التي وصفها الله تعالى في القرآن الكريم بقوله: (إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى، وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى)، وكأن الفلاسفة بذلك الطلب يحاولون تجاوز نتائج الخطيئة الأولى للإنسان، ومحاولة الانتصار على الشيطان الرجيم، الذي استخدم أسلوبا فلسفيا في إغواء آدم وزوجه -عليهما السلام-، وكما لو كانت مواجهة للعدو بذات السلاح، وبتتبع تفاصيل أحداث قصة آدم -عليه السلام- مع عدونا الأول الشيطان، تجد مبررا معقولا لقبول هذا التحليل، وعلى جانب آخر لو رأيت في أساطير الإغريق الوثنيين وآلهتهم التي يرومون الوصول إلى نموذجها ما هي في الحقيقة إلا تصوير بدائي لما أخبرنا عنه القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة حول الملائكة ومهامها التي أوكلها إليهم ربنا وربهم تعالى، كإله الرعد وإله المطر وإله الشمس... إلخ.
وعلى كل: فإن الفلسفة في مفهومها القديم بحث يفضي إلى معرفة واثقة ومتيقنة بالحقيقة المبحوث عنها، وهذا لب الفلسفة حتى يومنا هذا مع التطور الكبير في النظريات والتطبيقات التي ملأت العالم وحركت الأحداث، وأقامت الدنيا وأقعدتها، ونحن ما زلنا على ذات التوجس من ألف عام أو يزيد.


إن منزع التشدد الفكري حول تدريس الفلسفة، وتعليمها، كامن في جرأة السؤال في علم الميتافيزيقا أو علم الماورائيات، أو ما بعد الطبيعة أو الإلهيات، والتي يكون من أهم مباحثها السؤال الأول للإنسان المؤمن: حول ماهية الإله، ووجوده وما إلى ذلك من الأسئلة والمباحث، ومن هنا جاءت الحساسية السلفية التي ضخمت الأمر بأنه خروج إلى الإلحاد، وسحبت هذا الرأي على الفلسفة كلها، والميتافيزيقا فرع واحد وجزء من الفلسفة وليس الفلسفة كلها، كما أن فلسفة الإلهيات ربما كانت هي المدخل الرئيس لعقول كبيرة أتعبها البحث عن الحقيقة بعدما رفضت التقليد، كما حصل للفيلسوف الكبير عبدالرحمن بدوي وغيره، وهذا يتضح جليا في كتابي بدوي -وهما من أواخر ما كتب- «دفاع عن القرآن ضد منتقديه» و«دفاع عن محمد ضد المنتقصين من قدره».
وحتى ندرك حجم الوعي المشوه حول الفلسفة، والذي يظهر تناقضا كبيرا، سأضرب ثلاثة أمثلة على النحو الآتي:
أولا: لسنوات طويلة ومن خلال حرصي على المتابعة وقراءة أو اقتناء أي من رسائل الدراسات العليا في التخصصات الشرعية، خصوصا تلك التي تقوم على البحث وليس التحقيق، وجدت التطور المذهل والمتانة العلمية كلما تقدم الزمن بالأقسام العلمية الشرعية في الجامعات، ومردّ ذلك إلى دخول مناهج البحث في العلوم أحد أهم فروع الفلسفة، على اعتبار استقلاله عن فرع المنطق كما يرى بدوي مع بقاء الصلة الوثيقة بين الفرعين، وضم إلى ذلك تدريسنا لعلمي الاجتماع والنفس، وإيجاد الأقسام الكبيرة لهما في الجامعات وهما من فروع الفلسفة الأساسية.
ثانيا: مناهج الرياضيات والعلوم في التعليم السعودي العام حاليا، والتي تقوم على اعتماد مناهج بحث فلسفية بحتة، قائمة على الاستنباط والاستقراء والبحوث المنطقية المتقدمة، والرياضيات كما هو معلوم أحد أهم فروع الفلسفة الثانوية.
ثالثا: دورات الكورت، ودورات القبعات الست، ودورات تريز، ودورات حل المشكلات... إلى آخر تلك القائمة الطويلة التي لا تنتهي، والتي تفنن الصحويون على وجه التحديد بنشرها وتقديمها، وهم الذين ملؤوا الدنيا ضجيجا لتحريم الفلسفة ومنع تدريسها، وما هذه الدورات في حقيقتها إلا إعادة طرح لعلم المنطق وبعض مبادئه، وأسسه لا أكثر، وضم لذلك مبادئ الحِجاج الذي يتوسل بها بعض الفقهاء حال المجادلة لإثبات رأي فقهي أو نفيه.
وعلى الرغم من هذا كله ما زالت الفلسفة تقف خارج أسوار الجامعات والمدارس السعودية، في حالة غريبة تستعصي على الفهم.
&

&