سميرة المسالمة&& &

بلورت تفاصيل اجتماعات سوتشي بين الرئيسين التركي والروسي (17/9) آخر مهمات الحل العسكري في سورية، بدءاً من إبعاد إيران كطرف شريك فيه، وهو ما يعني بدء التزام كل الأطراف بقرار تحجيم دور إيران في سورية، كحضور عسكري وسياسي مباشر وغير مباشر عبر أدواتها الطائفية، وحيث يمكن اعتبار الاتفاق يمثل الترتيبات ما قبل الختامية لإنهاء ملف سلاح الفصائل المعارضة «المعتدلة» في إدلب، تنفيذاً لنصوص اتفاقات خفض التصعيد التي أسست لها اجتماعات الثلاثي في آستانة، وتطويق «النصرة» ضمن مربع «إرهابي» يمكن توظيفه من الطرفين الموقعين منفردين أو مجتمعين بطريقتين:

أولاهما، لإنهاء الهدنة المحددة عند الحاجة، للسبب ذاته: «محاربة إرهاب النصرة»، من دون العودة إلى تفاصيل الاتفاق الموقع والمحدد بجدول زمني، وهذا يمكن الطرف الروسي ومن خلفه النظام من استعادة زمام المبادرة إلى إعلان الحرب في أي وقت، في حال رغب أحدهما في تعطيل سير المفاوضات في جنيف، كما حدث سابقاً عند إعلان الحرب على حلب، ورفض روسيا وقف القصف ما أدى إلى انسحاب وفد الرياض 1 من المحادثات (نيسان/ أبريل 2016).

وثانيتهما، لاستخدامه كورقة ضغط على الولايات المتحدة الأميركية وشركائها الغربيين، لتدوير الحل السياسي بما يتناسب ودور روسيا المستقبلي في سورية والمنطقة، والتعاطي مع المصالح التركية بما يتوافق وهاجس أمنها القومي، بما يتعلق بوضع الكرد على حدودها، ويوفر حصة حكم مناطقي لمواليها من «المعارضة» السوريين.

من هنا، يمكن النظر إلى أهمية الاتفاق حول إدلب، إضافة إلى أثاره الجانبية الإيجابية على السكان المدنيين في المنطقة، والذين يقدر عددهم بحوالى أربعة ملايين سوري، حيث يتوقف ضجيج قرع طبول الحرب آنياً، لفترات محددة زمنياً، في مناطق التجمعات السكانية تحت مسمى مناطق منزوعة السلاح، بأن الاتفاق أيضاً، هو في حقيقته حاجة ملحة لكلا الطرفين الموقعين عليه، حيث يوفر بيئة آمنة لعاقديه (أردوغان - بوتين)، من مناخ دولي غير إيجابي حولهما، ويعيدهما من جديد إلى المشهد الدولي في العملية السياسية المرتقبة، في ظل ما يرشح عن أن الحل التفاوضي المتداول على طاولة جنيف هو أميركي - أوروبي - عربي.

وإذا كان الطرفان (تركيا، روسيا) استطاعا بالتعاون مع الشريك الثالث إيران تغييب المبادرة، (اللاورقة هل تؤسس للجمهورية الثالثة «الحياة» 1/2/2018) لتمرير محاولتهم في عقد مؤتمر سوتشي (30 /1)، فإنه في الوقت ذاته، لا يمكن النظر إلى مخرجات سوتشي بعيداً من محاولات روسيا المتكررة بالقفز إلى الأمام بما يتعلق بالمبادرات الأميركية، وترجمتها بما يتوافق وإحداثيات مصالحها في سورية، فحيث نفذت روسيا المشروع الأميركي في المناطق الآمنة، وحولته إلى مناطق خفض التصعيد، يمكن أن نقرأ أهم ما تم تصديره من مسار سوتشي، وهو التركيز على تشكيل لجنة دستورية، كانت اللاورقة (الأميركية - الفرنسية - البريطانية - السعودية والأردنية - المصرية) قد أحالت تشكيلها إلى الأمم المتحدة، للانتقال إلى: «عملية صياغة الدستور، ومن المحتمل تشكيل لجنة من الخبراء السوريين للقيام بذلك أو إنشاء حوار وطني شامل» حسب نص الوثيقة، أي أننا من جديد أمام سيناريو أميركي بأدوات تنفيذ روسية ومشاركة تركية مصلحية، وبعيداً من الوجود الإيراني ومصالحه. ولعل أهم ما يمكن قراءته في الوثيقة أو اللاورقة أنه: يوزع أو (يصرّف) سورية «الأسد» على سورية «الجمهورية الثالثة»، بدءاً من الملامح العامة لآلية عملية الإصلاح الدستوري المزمع إدارتها تحت إشراف الأمم المتحدة، وصولاً إلى «التغييرات المطلوبة في نظام الحكم، من أجل تهيئة البيئة الآمنة التي يمكن فيها إجراء انتخابات ذات صدقية يمكن الجميع المشاركة فيها من دون خوف من النظام»، حسب النص الوارد في مبادرة المجموعة المصغرة.

وتعد البنود الرئيسية الثمانية التي حددتها المبادرة، وعادت لتشدّد عليها الحوارات المسربة للمجموعة المصغرة، والتي انضمت إليها ألمانيا، وتسعى روسيا إلى ذلك أيضاً، هي جوهر الصراع السياسي الذي انطلقت من أجله ثورة السوريين آذار (مارس) 2011، قبل أن يتحول إلى حرب شرسة، بفعل استخدام النظام أقسى درجات العنف بمواجهة التظاهرات المطلبية، واستدعاء كل من إيران وروسيا والميليشيات الطائفية، لشن الحرب على الشعب السوري، ورد الفعل المقابل «حمل السلاح» والتدخلات الخارجية المصلحية، ما يجعل من المبادرات اليوم بعد إنهاء الصراع المسلح، يعني أن العودة إلى طاولة التفاوض في جنيف هدفها إعادة تموضع المطالب السياسية كأساس في الصراع، لإنتاج حل عادل في سورية، من دون الالتفات إلى الرابح المحلي في الصراع المسلح.

وهذا ما استوجب وضع تصور دولي لمبادئ عامة تحكم توجهات المرحلة الانتقالية، خلال عملية إعادة صياغة السنن الدستورية، والقانونية لسورية ما بعد الحرب، بدءاً من تقليص صلاحيات الرئيس الذي ينصبه الدستور الحالي كحاكم مطلق اليد، وانتهاء بإجراء إصلاحات على المواد التي تحكم الانتخابات، وآلياتها وبنيتها وجهات الإشراف عليها.

أي أن المبادرة تغير جوهرياً شكل الحكم ونظامه في سورية، وتنتزع من الأجهزة الأمنية الحالية «قانونية» استباحتها سلامةَ السوريين وحرياتهم وكرامتهم، وتتحول بسورية من المركزية إلى اللامركزية، والذي عبرت عنه في مبادرتها التي أطلقتها من باريس المجموعة المصغرة (لا مركزية السلطة، موازنة المصالح الإقليمية وذلك بمنح سلطة واضحة للحكومات الإقليمية استناداً إلى مبادئ اللامركزية/ تفويض السلطة مع العمل بمبدأ فصل السلطات)، وهو البند الأساسي الذي اعترضت عليه القوى الموالية لتركيا باعتباره يمنح كرد سورية ما ترفضه تركيا، ما يجعل السؤال الآن لماذا رغم وجود البند ذاته في الوثيقة الأميركية المسربة، تعود المعارضة ذاتها «التي رفضتها» لتسويق المشروع بدءاً من تركيا؟

نعم، ثمة ما يمكن طرحه اليوم بما يتعلق بإدلب، كإقليم تحكمه الجهات المقربة من تركيا، لكنه ينضوي إدارياً وربما شكلياً فقط، تحت «السيادة السورية» وهو جوهر التوافق الروسي - التركي، والتناغم المشترك بينهما مع الوثيقة المسربة، والتي لا تختلف في مضامينها مع اللاورقة، إلا بإعادة ترتيب الصياغة والشرح، ما يعني أن التسويق لها على أنها منتج جديد، هو لتبرير هدر الوقت من المعارضة التي تجاهلتها منذ إطلاقها حتى الاتفاق على إدلب، وما بينهما خسارة الغوطتين، والمنطقة الجنوبية، وإعادة تموضع القوات المتحاربة في إدلب وفتح الطرقات الدولية باتجاه دمشق، و «على» دمشق.

بمعنى أن كل ما حدث هيأ للحل الأميركي المقترح الذي اعتمد على السلاح الروسي، بناء على تفويض من الولايات المتحدة الأميركية لها بالملف السوري، ما ساهم اليوم بالتفاتة تركيا، وتقريب وجهات النظر بين الدول، ونزع سلاح المعارضة، وبدء إجراءات إبعاد إيران من المشهد السياسي، وتحويل الأطراف المتنازعة على السلطة إلى طرفين نظام وهيئة تفاوض، إلا أنه في المحصلة لا يزال العبث في سورية، وعلى سلامة السوريين وبلدهم، ووحدته رغم كل التصريحات، مفتوحاً على كل الاحتمالات، من كل الأطراف المتحاصصين عليها، ويبقى موضوع الحرب على الإرهاب نقطة ارتكاز في توسيع وتحجيم أدوار دولية ومحلية، وإنهاء أخرى، ما يجعل من اتفاق إدلب على أهميته في حال القدرة على تنفيذه، محفوفاً بالأخطار من داخله وخارجه.

* كاتبة سورية


&