& عبدالله بن بجاد العتيبي

&

تحتفل السعودية بعيدها الوطني الثامن والثمانين في مثل هذا اليوم من كل عامٍ 23 سبتمبر، عيد اكتمال توحيد البلاد، وهو يلخص جهداً تاريخياً وحضارياً وإنسانياً بذله الملك المؤسس عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، بطلنا التاريخي، موحّد البلاد ومرسّخ الاستقرار وناشر الأمن والأمان.


احتفالات السعوديين بوطنهم ظهرت بشكلٍ غير مسبوقٍ هذا العام. لقد انفتح المغلق، وذهب العائق، وعاد الوطن مجدداً ليصبح موضع احتفال وفرحٍ، ورائد فخرٍ وزهوٍ، لم ينس السعوديون وطنهم لحظةً، ولكنهم حرموا من الاحتفال به عقوداً لأسباب انتشار ما كان يعرف بـ «الصحوة» التي حجبت بتطرفها وتشددها كل مظاهر الأفراح ونشرت الكآبة والتطرف.
في هذا العهد الزاهر في السعودية، أحداثٌ تاريخيةٌ كبرى حدثت، ومشاريع ضخمةٌ أطلقت، وعاد الوطن يغني لأبنائه ويغنون له، يفرح بهم ويفرحون به، ففعاليات العيد الوطني تملأ ربوع البلاد شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، يشارك فيها الجميع، حكومةً وشعباً، قطاعاً خاصاً وأفراداً، كل في مجاله، وبإبداعه وطريقته، ولكن الوطن يفرض نفسه على الجميع حباً وكرامةً ومجداً وفخاراً.
تحدث ولي العهد السعودي عن العام 1979 وأنه كان عاماً مفصلياً في الداخل السعودي وفي المنطقة والعالم أكثر من مرةٍ، وهو حديث صحيحٌ، ففيه حدثت ثلاث مصائب كبرى، داخلياً، كانت حركة جهيمان العتيبي، المتطرف المتشدد الإرهابي، الذي استباح المسجد الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام، وإقليمياً، نجحت ثورة الخميني في الإطاحة بشاه إيران، ودولياً كان اشتداد الحرب الباردة بدخول السوفيات إلى أفغانستان، وانتشر خطاب «الصحوة» بعد ذلك العام.


دخلت السعودية مع حلفائها الكبار حول العالم في دعم أفغانستان، وواجهت بضراوة شرور الثورة الخمينية التي لم تزل تنشر وترعى الإرهاب، ودعمت بحسن نيةٍ تياراتٍ من المتدينين باعتبارهم أهل خير وإصلاحٍ بناء على ما ورثته من عهودٍ سابقةٍ، حتى جاءت لحظةٌ حاسمةٌ في تاريخ الوطن، وهي لحظة احتلال صدّام حسين للكويت وتهديده للحدود السعودية فتغير الكثير.
كانت هذه اللحظة لحظة كاشفةً في التاريخ، فقد اجتمعت فيها كل جماعات ورموز الإسلام السياسي في الداخل السعودي وحول العالم على معاداة السعودية وتمني سقوط دولتها ونظامها السياسي، فوقفت جماعة «الإخوان المسلمين» الأم وكافة فروعها إلى جانب صدام حسين، واتخذت رموز الإسلام السياسي في الداخل من «إخوان مسلمين» إلى «سرورية» إلى «حزب التحرير» إلى غيرها موقفاً واحداً ينشر البلابل والفتن ويشق الصف ويضرب الوحدة الوطنية.


يتم استحضار هذا التاريخ في عيد الوطن ليعرف كثيرٌ من الشباب الذين يشكلون سبعين في المائة من الشعب السعودي قيمة اللحظة الحالية التي يعيشونها أمناً ورخاءً ومستقبلاً، ويثمّنوا رعاية السعودية للانفتاح والتسامح والاعتدال، وأهمية المواجهة الصارمة التي تخوضها الدولة والشعب ضد التطرف والتشدد والإرهاب، ذلك أن التركيز على بعض اللحظات التاريخية ومقارنتها باللحظة المعاصرة يوضح حجم الانتقال نحو المستقبل والقضاء على كل معوقاته.
اكتشف الملك فهد حجم خيانة جماعات ورموز الإسلام السياسي داخلياً وخارجياً، وأن تحالف السعودية التاريخي مع الغرب هو التحالف الصحيح، وأن القوميين والبعثيين واليسار كلهم خصومٌ يتمنون الأسوأ للسعودية، وأن كل العروض التي جاءته من ممثلي الإسلام السياسي كانت حماقاتٍ سياسيةً تشتمل على العداوة للسعودية، من المتطرفين إلى مواقف جماعة «الإخوان المسلمين» المؤيدة لغزو صدام للكويت.
لم ينسَ هؤلاء تاريخهم مع السعودية، ولم يستطيعوا تجاوز حقيقة أن كل رموزهم ذهبوا وبقيت السعودية، وأنهم في كل مواقفهم خسروا وكسبت السعودية، وهو أمرٌ يعرفه الملك فهد جيداً، فالتاريخ محفوظٌ والمواقف موثّقة.


هذا التغيّر التاريخي في موقف الملك فهد ليس أمنيةً لكاتبٍ أو إعادة تفسير للتاريخ، بل هو ما تمّ فهمه لاحقاً، مع تكشّف الحقائق وتوارد الروايات وخروج التصريحات. لقد فهم الملك فهد جيداً أن التحالف مع الإسلام السياسي كان مرحلةً فحسب، مرحلةً قضت بها التوازنات الدولية والإقليمية والداخلية، وحين تجلّت «الصحوة» عن عدوٍّ مقيمٍ وظهر «الإخوان المسلمون» كخونةٍ أصبحت الحقائق واضحةً فتغير التوجه.
ولكن كيف ظهر هذا التغير التاريخي وكيف أمكن رصده وتبيّنه؟ أول تلك المؤشرات ظهوراً كان بأمره الصارم باعتقال رموز «الصحوة» المحليين الذين ظهروا للسطح آنذاك كأعداء للدولة واستقرارها، ومن رموزهم سفر الحوالي وسلمان العودة، كما عبّر عن رغبة جادةٍ في العودة لانفتاح المجتمع ما قبل «الصحوة» وبارك إنشاء مؤسسات إعلامية تقود الانفتاح سعودياً وعربياً فكان إنشاء «الإم بي سي» بدعمه ورؤيته.
هذه مع غيرها مواقف يمكن قراءتها في هذا السياق، ولكن لها إضافتين مهمتين؛ جاءت الأولى من الأمير نايف بن عبد العزيز في حديثه مع جريدة «السياسة» الكويتية والذي نشر في العام 2002 والذي تحدث فيه الأمير نايف بالتفصيل عن خيانة «الإخوان المسلمين» وجماعات الإسلام السياسي داخلياً وخارجياً للسعودية، في تفاصيل مذهلةٍ لم يكن يعرف بها الكثير في مرحلة ما بعد تحرير الكويت، وهي إشارة واضحةٌ لما تشكل لدى الملك فهد من الحقائق الجديدة، ولا يمكن لملكٍ في حكمته ووعيه أن يجعلها تمر مرور الكرام.
وجاءت الثانية من رواية خالد نزار الجنرال الجزائري في مذكراته التي نشرها في العام 2012، وذلك حين التقى الملك فهد بعد تحرير الكويت ونقل عنه رأيه في جماعات الإسلام السياسي ورموزه، وقال: «وبعد أن أوصاني بجمع أمر الجزائريين، بدأ يتحدث عن الإسلاميين، فقال: العصا، العصا، العصا، كررها ثلاث مراتٍ».


وحين تحتفل السعودية بعيدها الوطني الثامن والثمانين، بمواقف جديدةٍ وصارمةٍ داخلياً وخارجياً، وتصنف جماعة «الإخوان» جماعةً إرهابيةً في سلسلة قراراتٍ تاريخية سيسجلها التاريخ بحروفٍ من نورٍ، فهي تستمرّ في مواقفها منذ الملك فهد إلى الملك عبد الله وصولاً إلى الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد بن سلمان الذي أكد أنّ السعودية ستعود لما قبل العام 1979.
أخيراً، السعودية في يومها الوطني تقابل صناعات الإسلام السياسي الثلاث بصناعات سعوديةٍ ثلاثٍ: قابلت «صناعة السخط» بـ «صناعة الرفاه» و«صناعة الإحباط» بـ «صناعة الأمل» و«صناعة الموت» بـ «صناعة الحياة». وكل عامٍ والسعودية بخيرٍ.