أحمد جابر&

عندما خاضت المجتمعات الصراع من أجل إنجاز مدنيتها، أولت معادلة تداخل الديني بالسياسي، عناية خاصة. كان الهدف، كفّ أيدي الذين استولوا على الدين، لتفادي عبثهم بشؤون السياسة، هذه التي أراد لها الحراك الاجتماعي الجديد أن تظل شأناً دنيوياً، أي أن تبقى ما هي عليه، حقيقية وغير مخالطة بتعريفات «مفارقة» تخرجها من بيتها «الآدمي»، وتناقض وقائعها المحسوسة والملموسة، وترفعها إلى مراتب التدابير «النورانية» التي تعترض العقل، وتتعارض مع الزمن، ومع منطق الأمكنة وكيفية إدارة شؤونها.


دقة المهمة، وتعقيدات مواضيعها، فرضت تناولها من خلال إعمال الفكر «الدقيق»، غير المبسط، الذي عرض للتداخل الاجتماعي، بشمولية فكرية ومنهجية، واقترح له، بعد إمعان النظر – النظري، اقتراحات عامة، وشاملة أيضاً. بعد ذلك، تولت القوى الصاعدة اجتماعياً، بقيادة نخبها الناهضة فكرياً، تنفيذ «الجديد العقلاني»، وحسمت المسألة في صالحه. مع التقدم الاجتماعي، الحديث، صارت «المدنية»، انبعاثاً جديداً للذات الإنسانية الحرة، وتحريراً جديداً «للماورائيات»، من قيود التفسيرات السلطوية والتسلطية، وبات المدني الجديد، مستقلاً في نظرته إلى ذاته في المرآة، ومستقلاً في اختيار «تمتمته الخاصة»، مع السماء.

هدف هذا التمهيد، الإطلالة على الوضع اللبناني، الذي حاول «مدنيوه» مدنية محوّرة، واستقلالية مواربة، وغامروا، أحياناً، بفتح معركة فكرية صريحة، مع «الإكليروس الأهلي»، لكنهم عادوا من تجربتهم العامة، بالخيبة، وكانت النتيجة، المتحركة أمام الأبصار والأسماع والأذهان، إكليروس سياسياً هجيناً، يمتلك طقوس «الديني» وعاداته، ويعتمد أساليب «السياسي» ومناوراته. يحيط الإكليروس السياسي اللبناني ذاته بهالة «العصمة». هو صائب النظرة وصحيح التحليل، وهو منزَّه عن الخطأ ومترفع عن الأنانيات، وهو زاهد في حياته الشخصية ومستغرقٌ في الشأن العام، وهو بالغ مرتبة «الحلول» الجماهيرية، بعد أن كابد في معارج الوصول إليها... ثمة مسحة من القداسة يمسح بها الإكليروس السياسي وجهه، وهذه تسمح له بإدارة انخداع الجمهور وانبهاره، وتعينه لدى مباشرته فنون التضليل السياسي، وفرض الممارسة التسلطية، خاصة في مجال النظرة الأحادية، ونفي المخالف، وإقصاء المغاير، وسوى ذلك من الميادين، التي يمكن أن يرشح منها ما يثير الظنون في حكمة الإكليروس المتعالية، أو ينال من مكانتها السامية! ثمة مفارقة على صعيد «البنية التحتية»، لا بد من التقاط مغزاها. لقد كان التناقض سمة للعلاقة بين «تحت» الطيف الشعبي، و «فوق» الائتلاف السياسي، في المجتمعات التي سبقت إلى الحداثة والمدنية والعقلانية، بينما نقع، في لبنان، على ظاهرة التماهي بين المستويين، ونكاد لا نلحظ كدراً يعكر صفو العلاقة، بين تحت البنية الأهلية وفوقها. في هذا المقام، لا تلعب النخبة دوراً تطويرياً، بل هي تجدد نخبويتها من خلال عودة ارتكاسية إلى الجذور، تناقض حوامل الفكر المتجاوز، التي أتاحت «للآخر» النهضوي تحقيق نهضته. تتخذ العودة تلك، شكل الاستغراق في الماضي، وإدامة المكوث بين موضوعاته، ومن ثم إعادة إنتاج الراهن الثقافي والاجتماعي والسياسي، بالاستناد إلى المنطق الداخلي، الماضوي، الذي يقع على الطرف النقيض، من كل محاولة تطويرية.

انطلاقاً من هذا الواقع، الارتكاسي، يساهم الجمهور الأوسع في تصنيع صورة الإكليروس السياسي، الخاصة به، ويضيف إليها من عندياته، منوعات ألوان مكبوتة أو ممنوعة أو مقموعة، أو مأمولة أو مرغوبة، أو مرتجاة... الإضافة الجماهيرية لا تعدو كونها تعويضاً عن ضعف الذات من خلال الاستعانة بقوة الإكليروس السياسي، الذي أنيطت به شؤون الدين والدنيا، واستبدالاً لدنس الدولة، الملعونة والمذمومة، بقدسية الرمز الأهلي، الذي سيقيم «الدولة الطاهرة»... لاحقاً!

يختزن الرمز الأهلي، في الذاكرة الأهلية وفي مخيالها، معاني عدة، تجتمع لتشكل، في واقع الأمر، حاجات إشباعية، نفسية ووهمية، لمجموع الأهل، الذين لا يستطيعون إشباع حاجاتهم الحقيقية. تتسم العلاقة، بين الجمهور الأهلي وإكليروسه، بالغلو والمبالغة، أي بتعطيل الفكر ومجافاة العقلانية. تمحي مع المبالغة والتطرف، معايير النقد، بل إمكان الدعوة إليه، وترافق الممارسة خرافات وأساطير وأضاليل وأكاذيب... يسيطر النقل والمأثور على العقل والمسطور، وتتكون منظومات قيمية ومعايير أخلاقية وسياسية ودينية، يُنظر إلى الخروج عليها كخروجٍ على المقدس، وتجديف عليه. على هذه الخلفية، تهتز قاعدة الشرعية السياسية والاجتماعية التي يجب توفرها، مادياً، لكل «رمز خلاصي»، أو «بطل سياسي»... ليحل محل تلك القاعدة، مقوِّم «الغيب»، الذي لا يكون بالضرورة، دينياً فقط، بل قد يكون أيضاً موروثاً أهلياً، ارتفع إلى مصاف الغيب، واقتطع لذاته بعضاً من قدراته.

في هذا المجال يتعدد الغيب اللبناني، بتعدد الكتل الأهلية، التي يتشكل منها لبنان، ويتفرع، بتفرع الرموز والعادات والأمثال، التي انتزعت «سرها الغيبي»، من صروف الزمان ومن جيولوجيا المكان، وبات لها قديسوها وكهنوتها وأبطالها وشهداؤها وصروحها التعبدية، الموزعة بين دور عبادة وقصور زعامات.

يدعو الإكليروس السياسي اللبناني، ويستجيب المجتمع الأهلي، لعبادة الأرزة والبندقية وشتلة التبغ وغرسة الزيتون، وذرى الجبال وكهوف الأودية... ويحض الإكليروس مريديه على رفع الأصوات بالدعاء، أي على إرجاء الحلول وتغيير واقع الحال، وإحالة الأمر كله إلى إرادة «خارجية»... هذا لأن طلب تبديل الأحوال، المؤجّل، يتيح دوام تحكم الإكــليروس، المعجل... لعقود طويلة.