ماجد كيالي

 لا توجد ثورات إلى الأبد، والثورات هي في الحقيقة لحظات تاريخية، انفجارية ومفاجئة وعفوية، تبعاً لأحداثها، ووقائعها، وهذا ينطبق على كل الثورات التي عرفتها البشرية، وضمنها الأميركية والفرنسية والروسية، ولذا يجري تمييز الانتفاضة التي يمكن أن تستمر لسنوات، والتي يتخللها نوع من مخطط توجيهي، وتقاد من قبل قوى منظمة، كما يحصل تمييز الصراعات الممتدة، وضمنها نضالات حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار (فيتنام والجزائر وفلسطين مثلا)، والتي استمرت لعقود من الزمن، والتي سميت تجاوزاً بالثورات، كما يحصل تمييز الحركات المناهضة للعنصرية والدكتاتورية والطغيان الخ...

هكذا، ليس ثمة ضير من تسمية الظواهر الاجتماعية بأسمائها، إذ إن إطلاق تسمية ما على ظاهرة معينة لا يمنحها هويتها، أو لا يضيف عليها قيمة ما، لأن هويتها وقيمتها تنبع من مقاصدها وإنجازاتها، إذ حتى الثورات التاريخية الكبرى، التي ذكرناها، سميت كل واحدة منها بالحرب الأهلية، ذلك أن هكذا تسمية لا تقلل من شأن أي ظاهرة. فالثورة هي في اصطفافاتها، وصراعاتها، تنطوي على نوع من حرب أهلية، وفي الوقت ذاته هي محاولة لقلب الواقع السياسي، هذا أولاً. ثانياً، إن إطلاق تسمية ثورة على عملية تغيير سياسي بات لها من العمر سنوات، وهذا هو حال الصراع السوري الذي مر عليه سبعة أعوام، لا يخدم في توصيف الواقع، لأن الثورة بوصفها واقعاً عفوياً وانفجارياً وشعبياً استنفذت أغراضها، ولأن ما يحصل بات أقرب إلى الصراع السياسي الممتد، مع الإبقاء على المقاصد الأساسية للثورة (التي اندلعت في آذار/مارس 2011)، أو بالانزياح عنها كما حصل في سيادة خطابات الفصائل العسكرية «الإسلامية»، وأخيراً، لأن ما يحدث بات في أحد أبعاده بمثابة حرب أهلية بكل معنى الكلمة، وفي أبعاده الأخرى بات بمثابة صراع دولي وإقليمي على سورية.

ليس القصد من ذلك نعي الثورة، كفكرة، كما قد يعتقد البعض، ولا التشكيك بمشروعيتها، فالثورة على النظام، هي عملية مشروعة وعادلة وضرورية، بحكم الاستعصاء الذي يمثله هذا النظام لعملية التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي في سورية. لكن القصد هو التأكيد أن الصراع السوري خرج من مفهوم الثورة، إلى مفهوم الصراع السياسي الممتد، لتحقيق الأهداف أو التطلعات التي انطلقت من أجلها تلك الثورة.

ولعل ما يؤكد ذلك أن الثورة لم تحقق المفترض منها، ليس على صعــــيد إسقاط النظام فحسب، وإنما حــــتى على صعيد بناء قوى المعارضة ذاتها، في بناها وخطاباتها وأشكال عملها، بل إننا إزاء نوع من التراجع الخطير، على هذا الصعيد، بالقياس للبدايات الواعدة التي كنا شهدناها في العام الأول للثورة مثلاً.

وفي الواقع، إن القوى المفترض أنها ثورية، وهي هنا الكيانات السياسية والعسكرية والمدنية، فشلت بشكل ذريع، في حمل مشروع الثورة، والاستمرار به، لأسباب عدة، أولها، أنها لم تستطع، على رغم تضحيات وتجارب سبعة أعوام، من بناء كيان سياسي جامع، وطني وجبهوي، يعبر عن السوريين، ويدير كفاحهم من أجل تحقيق أهدافهم، بعيداً من الحسابات والحساسيات الضيقة، الشخصية أو الأيديولوجية أو الفئوية. وثانيها، لم تستطع الكيانات السائدة في المعارضة الحفاظ على المقاصد الأساسية التي انطلقت من أجلها ثورة السوريين، أي الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، بل إنها جاملت، أو تبنت، خطابات الجماعات العسكرية، الدينية والطائفية، التي أخذت الثورة الى خطابات أخرى، تتعلق بتغيير نظام الحكم، أو الاستيلاء على السلطة، ما يعيد إنتاج الاستبداد بصور أو بأشكال أخرى، وكان نمط إدارة المناطق المحررة لا يبشر بالخير، بل إن هذه الإدارة هي أحد أهم أسباب ضعف ثقة السوريين ببعضـــهم، وانحسار ثورتهم. وثالثها، أن المعارضة لم تحصن ذاتها تجاه مخاطر فقدان الاستقلالية، والاعتمادية على القوى الخارجية، واحتمال توظيفها لصالح أجندات هذه الدولة أو تلك على حساب حقوق السوريين وسلامة مسار ثورتهم. ورابعها، تسرع المعارضة بانتهاج العمل المسلح، وتصعيده إلى مستويات غير محسوبة، وخارج قدراتها على التحمل، ما أضعفَ موقفها، وما زاد الهوة بينها وبين الجماعات العسكرية، وما قطع صلتها بالمناطق المحررة، وعزز اعتماديتها على القوى الخارجية. وربما لا نضيف جديداً بالقول إن هذه المعارضة، وبغض النظر عن الادعاءات، لم يكن لها أي قرار أو دور في خصوص التحول نحو الصراع المسلح، ولا في شأن ايجاد مناطق محررة. وخامسها، أن المعارضة ليس فقط لم تدرك أخطار إخراج الشعب، أو أغلبية الشعب، من معادلات الصراع، لا سيما بالحصار والتدمير والتشريد، بل إنها، أيضاً، لم تفعل شيئاً لتأطيرهم أو استثمار قدراتهم، وإيجاد تمثيلات لهم. وسادسها، أن المعارضة لم تشتغل على انتاج خطاب يعزز الثقة بين مكونات الشعب السوري، الإثنية والدينية والمذهبية. ففي القضية الكردية، مثلاً، تبنت الموقف التركي، ولم تتعاط مع المسألة الكردية في سورية بوصفها مسألة سورية، ولم تجمع في خطابها بين حقوق المواطنة والحقوق الجمعية «القومية» للكرد بوصفهم جزءاً من أمة أكبر (مثل الأمة العربية)، هذا مع التأكيد على مسؤولية القوى الكردية عن ذلك، لا سيما حزب بي واي دي، الذي تعامل مع المسألة الكردية في سورية كأنها مسألة كردية في تركيا.

بيد أن أكثر ما أضر بالثورة السورية هو أنها تأسست في إدراكات المعارضة السائدة على فكرتين، أو مراهنتين خاطئتين، أولاهما، أن العالم سيتدخل لصالح الثورة، ما جعلها مرتهنة للتدخلات الخارجية وقابلة بها. وثانيتهما، أن الثورة ستنتصر حتماً، من العام الأول، ومن التجربة الأولى، على رغم كل الثغرات والمشكلات المحيطة بالتجربة السياسية للسوريين، وعلى رغم كل المداخلات والتعقيدات التي تعيق ذلك.