فيصل العساف 

قصص النجاح الباهرة لا يمكنها المرور من دون حصد الإعجاب، لكنني على الصعيد الشخصي أتوقف كثيراً للتفكير في السياسية منها بين خطين متوازيين، أحدهما إنساني عاطفي، يشعر بحجم المعاناة والألم الذي يخيم على معسكر الخاسرين، فيما الآخر واقعي لا يعترف بالجمود، مأخوذ بالطموح البشري، وبذلك النوع الفريد من الإصرار عندما يثمر هدفاً يمكن وصفه بالخارق من دون تردد.


إلى تركيا، حيث واحدة من حكايات سطوة الإرادة على الواقع، بطلها رجب طيب أردوغان، رجل واحد فقط، فكّر ثم قرر أن يكون سيد تركيا الأول، وتحقق له ما أراد. في سيرته، يمكنك الخروج بنتيجة مفادها أن التخلص من حلفاء الأمس يعتبر أولى خطوات السياسي المسكون بهوس الزعامة، فالتحولات النفعية سيطرت على كامل تصرفاته، حتى أن «شيوخه» الذين حملته أكفهم وأصوات مريديهم، لمّا اشتد ساعده طاردهم وأودعهم ومريديهم السجن! لكن في المقابل، يقف الجميع شاهداً على نجاح مشروع أشبه بالمستحيل، إذ كيف لأعزل أن يواجه حصن العسكر التركي العصي حتى الانتصار عليه، ليتسلم أخيراً مفاتيح السلطة ويتربع على العرش.

إنها حقاً قصة ملهمة بكامل تفاصيلها وإرهاصاتها التي تمتد إلى خارج تركيا أيضاً، فلقد تمكن أردوغان بذكائه من إقناع «البعض» بأنه الخليفة الناصر للإسلام والمسلمين، على رغم علاقاته المتميزة جداً بـ «ألد» خصومهم، إسرائيل التي يخوض ضدها أعتى الحملات المعادية اللسانية، بينما على الأرض علاقات من الطراز الرفيع في المستويات كافة بين البلدين الصديقين، وإيران التي يتولى معركة إثبات نسب مجرميها إلى العالم الإسلامي بالتقارب المريب معهم! مشهد تمثيلي متصنع على قارعة الطريق، أو تحريك سفينة إلى أهل غزة المحاصرين، تكشف عبقرية الرئيس أنها كفيلة بمحو نكوصه على عقبيه تجاه كل ما يخص القضايا المصيرية التي تخوضها منطقتنا، سواء في القدس التي حاول الدندنة على أوتارها بعد إعلان نقل السفارة الأميركية إليها، وإن لم يصمد طويلاً، أم في الشأن السوري الذي انتفض فيه أردوغان حتى على وعوده، عندما تحول إلى أحد اللاعبين الرئيسين في ساحتها، لحسابه هو، وعلى حساب الشعب وقضيته ومعاناته التي ظل سنوات يتاجر بها.

إن ما يفعله أردوغان يمكن وصفه بـ «الخفة» السياسية، عندما تمر «بهـــلــلته» بيــن يــدي مؤيديـــه من دون أن يشعروا، شيء يشبه السحر، لكنه يفسر نفسه بالنظر إلى نوع المعجبين ربما، وفق تصــــنيفهم الأيديولوجي والسياسي الذي يغلب عليه الطابع الثوري الإخواني، من هنا يمكن أن نفهم أن المسألة برمتها لا تتعدى مصلحة متبادلة تقوم في أساسها على مبدأ «شدّ لي وأقطع لك».

الجميع متورطون في ملفات صعبة في حقيقة الأمر، الرئيس التركي يغوص حتى أذنيه في مشكلات داخلية تبدأ من الاقتصاد المنهار، ولا تنتهي بالخصوم السياسيين الذين طالتهم سطوته، وفي الجانب الآخر مخربون هاربون لا ملجأ لهم بعد إسطنبول، لذلك يخوض الطرفان حرباً ضروساً ضد الجانب الصامد بقيادة السعودية والإمارات ومصر، فيما يشبه العقاب بسبب تماسكه، يحملانه نتائج نجاحه في دحر سعار «نهضتهم» الذي كاد أن يودي بالجميع.

كان يمكن قصة الرئيس أن تحوز على رضا الجميع لولا أنها تطلعت إلى حقوق الآخرين بمزيد من الطمع، كـــادت أركان النجاح أن تكتــمل فـــيها لو أنها أخلصت إلى تركيا فقط، ونأت بها عن الدخول في مستـــنقع الانتهازية تجاه جيرانها العرب في أحلك الظروف، لكن أردوغـــان اختار طريقاً صعبة جعلته يستعدي الآخرين، في تحدٍ جديد هذه المرة، للتاريخ والجغرافيا والرجال المخلصين.