سمير عطا الله

 الشماتة سوءة من سوءات الحياة. لا يتعداها في الانحطاط الأخلاقي سوى النميمة والبخل. والأخير قعر الدناءة بكل درجاتها لأنه أبو الرداءة البشرية، وأولها الحسد. عناوين صحف الكويت أعلنت قبل أيام وصول شحنات النفط، والمياه العذبة، والأغذية إلى البصرة!

العام 1961 كان الزعيم الأوحد عبد الكريم قاسم يشير إلى «البقعة المعروفة باسم الكويت في محافظة البصرة». والحمد لله على هذه البقعة التي نجت من آداب قاسم وأحلام صدام لكي تتمكن من إدارة إعمار العراق، ونقل المياه إلى بلاد ما بين النهرين! ما من صورة أكثر سخرية ومأساوية لتاريخ السلوك العربي الكارثي.


يفهم المرء - إذا شاء - أن يتطلع عبد الناصر إلى نفط الخليج لأن مصر تعاني تاريخياً من النقص في الموارد الطبيعية. أما العراق ونفطه ومياهه وخصبه، فعلى ماذا يحسد الكويت، ويمد يده ليخطف جارته ويندد بسيادتها ويشكك في شرعيتها ويحتل أرضها وينكل بأهلها؟ الحمد لله أن الكويت بقيت حرة لكي تتمكن من إسعاف البصرة، واللهم لا شماتة. ولكن ما هذا الذي يجري أمام أبصار العرب ولا يبصرون؟ ما هذه «البقعة المعروفة باسم الكويت في محافظة البصرة» التي تتصدر، منذ 1961، صفوف الدول المحترمة في العالم، رغم كل ما حل بها، واليوم ترسل المياه العذبة إلى بصرة أنهكها الفساد، ودمرتها الحكومات المتعاقبة في بغداد: دولة خيارها ما بين عبد الكريم قاسم وصدام حسين، وجارة صغيرة تلملم جروح العراق ومآسيه، وتستمر، كعادتها، في بناء نفسها واحترام نفسها والسلوك مسلك الأمم، غالباً، برقي وتميّز.
يبدو كل شيء الآن مضحكاً ومبكياً ومفزعاً معاً. الجماهير تمضي خلف عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، وتدمر كل ما يريدان، ثم يقتلان بعضهما البعض، ثم يتيه العراق في بحر من السجون والمشانق والحروب، ثم تبدأ تصفية الرفاق، بالعزل أو بالقتل. ما بين مرحلة «الأب» أحمد حسن البكر صدام في الرحلة الطويلة من محاولة اغتيال قاسم، عرف العراق نهضة صناعية واقتصادية وتعليمية لم يعرفها من قبل - ولا من بعد.
كما بدأ قاسم تصفية أعدائه بالأكراد، بدأ صدام بهم وانتقل إلى سواهم. خرج على إيران، ثم خرج على الكويت. وفي الطريق، هدد السعودية والإمارات. ومشت خلفه الجماهير تهتف ضد الرجعية العربية! والرجعية العربية كانت ضمن حدودها، تبني دولها، وتوفر لشعوبها فرص حياة لم يعرفها أي شعب آخر على وجه الأرض.
رجعية، ولكن بلا فقر، وبلا ذل، وبلا ديون، وبلا سجون، وبلا خراب، وبلا جنون كلامي مثل الدق على النحاس في وادٍ ذي صدى. واللهم لا شماتة. ونتمنى للعراق أن يكون نفسه، وأن يستعيد ذاته، وألاَّ تحتاج بلاد ما بين النهرين ماءً ولا نفطاً من أحد!