غضبٌ عارمٌ ضرب معظم أوروبا، عقب تصريحات بابا الفاتيكان، التي طالب فيها أوكرانيا برفع "الراية البيضاء" و"التحلي بالشجاعة للتفاوض" مع روسيا، لتجنب المزيد من القتلى. وبينما رحبت موسكو بتصريحات البابا فرنسيس، أعربت كييف عن خيبة أملها من حديث الحبر الأعظم، الذي سبق أن أغضب أوكرانيا؛ عندما قال إن حلف شمال الأطلسي "ينبح على عتبة روسيا"، وفي حين أصيبت عواصم أوروبية بحالة هياج، أكدت صحيفة بولندية أن "البابا معصوم من الخطأ في أمور الإيمان. لكن لا عصمة له في القضايا الجيوسياسية، لقد أخطأ فرنسيس"! تصريحات مثيرة فى مقابلة مع تليفزيون "آر تي إس" السويسري، قال البابا فرنسيس: "إن أوكرانيا يجب أن ترفع الراية البيضاء لإنهاء القتال والقتلى"... وعلى الفور توالت ردود الأفعال، إذ أبدت موسكو ترحيبها بكلمات البابا، وأوضح ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين أن روسيا لا تعتبر تصريحات البابا دعوة لأوكرانيا للاستسلام، بل طلب للمفاوضات. وسارعت كييف إلى الرد بحدة، قائلة إنها لن تستسلم أبداً، واستدعت فيسفالداس كولبوكاس سفير الفاتيكان لديها؛ احتجاجاً على كلمات البابا، وطالبت رأس الكنيسة الكاثوليكية بعدم الإدلاء بتصريحات تضفي شرعية على حق القوة وتشجع على تجاهل معايير القانون الدولي، وقالت الخارجية الأوكرانية إن كييف تشعر بخيبة أمل إزاء تصريحات البابا بـ"رفع الراية البيضاء والحاجة إلى إظهار الشجاعة والتفاوض مع المعتدي". وسبق للرئيس الأوكراني أن قال إن الشخصيات الدينية يجب ألا تشارك في "وساطة افتراضية بين من يريد أن يعيش ومن يريد تدميرك". تخطت العاصفة حدود أوكرانيا إلى الجوار الأوروبي، مثيرة ردود فعل حادة، في وقت جدد الرئيس الروسي التلويح بالسلاح النووي؛ إذ رفض مسؤولون أوروبيون دعوة بابا الفاتيكان لـ"التحلي بالشجاعة لرفع الراية البيضاء والتفاوض" مع موسكو، بعد عامين من غزو روسيا أوكرانيا. أقوى المواقف جاءت من برلين وباريس وبعض عواصم شرق أوروبا. رفض المستشار الألماني أولاف شولتس رفع "الراية البيضاء" والتفاوض مع روسيا. وعبرت أنالينا بيربوك وزيرة الخارجية الألمانية عن شعورها بالدهشة حيال دعوة بابا الفاتيكان لأوكرانيا لإجراء مفاوضات سلام مع روسيا، وقالت إنها "لا تفهم" موقفه. أما ماري-أغنيس شتراك-تسيمرمان، رئيسة لجنة الدفاع بالبرلمان الألماني فانتقدت بحدة كلمات البابا: "قبل أن يرفع الضحايا الأوكرانيون الراية البيضاء، يجب على البابا أن يطالب الجناة الروس الوحشيين بصوت عال ولا لبس فيه بإنزال علم القراصنة الروسي الذي يرمز إلى الموت والشيطان".

وكان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون قد طالب بحشد قوات أوروبية برية؛ للمشاركة في الحرب الروسية - الأوكرانية إذا اقتضت الظروف، لمنع موسكو من الانتصار، بينما علقت أورسولا فون دير لاين رئيسة المفوضية الأوروبية على مطالب البابا بشأن أوكرانيا، قائلة: "من ينكر السلام ويريد القضاء على أوكرانيا هو بوتين، وعليه أن يلقي سلاحه". "لا أحد يتوق إلى السلام أكثر من شعب أوكرانيا، ولكن يجب أن يكون سلاماً حقيقياً وعادلاً؛ وليس احتلالاً أو قمعاً". عصمة البابا وانضم إلى الانتقادات ساسة بارزون من دول وسط وشرق أوروبا، المهددة بالعدوان الروسي. أسهبت صحيفة "رزيكزبوسبوليتا" البولندية في تناول المشهد بأوكرانيا: "لطالما قالت روسيا إنها مستعدة للتفاوض، وكل ما هو مطلوب من أوكرانيا هو التخلي عن سيادتها على 20% من أراضيها. ومن ثم يمكننا شراء النفط والغاز الروسي الرخيص مرة أخرى. على الأقل إلى أن تعيد روسيا تسليح قواتها العسكرية وتجد أن أمنها مهدد من قِبَل دولة أخرى، ربما مولدوفا، وربما إستونيا، وربما بولندا (...) من الصعب أن يكون زعيم الكنيسة مؤيدا للحرب (...) ما يدعو إليه البابا لن يكون سلاماً، بل مجرد هدنة قبل الحرب المقبلة". وأضافت الصحيفة: "تنص تعاليم الكنيسة الكاثوليكية على أن البابا معصوم من الخطأ في أمور الإيمان. لكن ذلك لا يعني شيئاً بالنسبة للعصمة في القضايا الجيوسياسية. وفي هذه القضية، فإن فرنسيس مخطئ بكل بساطة". وإزاء كرة النار المتدحرجة بشدة، أصدر الفاتيكان توضيحاً للمقابلة المثيرة للجدل التي أجراها البابا فرنسيس مع التلفزيون السويسري نفى فيه تلك التصريحات، لافتاً إلى أن البابا لم يذكر "الراية البيضاء"، وأشار ماتيو بروني مدير المكتب الصحافي للكرسي الرسولي إلى كلمات البابا بمناسبة الذكرى السنوية الثانية لبداية الأزمة الأوكرانية: "بينما أجدد محبتي العميقة للشعب الأوكراني الشهيد وأصلي من أجل الجميع، أتوسل أن نجد تلك الإنسانية الصغيرة التي تسمح لنا بتهيئة الظروف لحل دبلوماسي بحثاً عن سلام عادل ودائم". توضيحات الفاتيكان لم تطفئ اللهب، بل اعتبرها البعض مؤشراً إلى يأس غربي من إمكانية انتصار أوكرانيا في الحرب، مع تصاعد احتمالات انهيارها. وجهت مجلة "ريسبونسبل ستيتكرافت" الأميركية سؤالاً إلى الزعماء الغربيين: هل نحن مستعدون للمراهنة على تغيير غير متوقع في ساحة المعركة، حتى لو كان هذا يهدد بانهيار الجيش الأوكراني وبالتالي انهيار أوكرانيا كدولة؟ إذا لم تكونوا مستعدين لذلك، فمن المرجح أنه قد حان الوقت للإصرار على إجراء المفاوضات قبل أن يصبح الوضع أسوأ". وأشارت إلى أن المشكلات العسكرية والسياسية في أوكرانيا تجعل انتصارها مستحيلاً، وأيدت المجلة الأميركية موقف البابا بدعوته "الواقعية" للطرف الخاسر في النزاع الأوكراني للتحلي بالشجاعة، ورفع الراية البيضاء. ميدانياً لا يمكن لأي متابع أن يجزم بأن أوكرانيا قادرة على الانتصار؛ برغم الدعم الأميركي - الأوروبي المتواصل. انتقدت صحيفة "تلغراف" البريطانية نصيحة البابا؛ ووصفتها بأنها ليست موضع ترحيب في بلد تم غزوه قبل عامين، "لكن ربما كان البابا يقول فقط ما يعتقده العديد من الزعماء العلمانيين في أوروبا وأميركا وأماكن أخرى: إن أوكرانيا غير قادرة على الانتصار، ومع ذلك، من الصعب تخيل حل تفاوضي لا ينص على احتفاظ روسيا بشبه جزيرة القرم، والأراضي المحتلة في الشرق". وذهبت صحيفة "لا ريبوبليكا" الإيطالية أبعد من ذلك: "عبرت أوكرانيا وحلفاؤها الغربيون عن احتجاجهم، مستأنسين بتجربة مقاومة هتلر؛ بينما تصفق روسيا التي فهمت كلمات البابا على أنها تحذير للغرب". حقن الدماء إذاً؛ هل آلت الأوضاع في الحرب الروسية - الأوكرانية إلى حالة ميؤوسة منها بالنسبة لكييف، لدرجة "رفع الراية البيضاء" وفق تعبير قداسة البابا، ومن ثم القبول بمفاوضات ربما تؤدي في نهاية المطاف إلى التنازل عن أجزاء كبيرة من الأراضي التي غزتها روسيا بالقوة، أم أن ثمة آمالاً لتغيير موازين القوى، في المدى المنظور، لصالح كييف، بشكل يُحسّن موقفها التفاوضي في أي مفاوضات سلام؟ تصريحات البابا جاءت في وقت زادت حدة التوترات بين روسيا من جهة وأوكرانيا وحلفائها الغربيين من جهة ثانية، وتبدو احتمالات التوصل إلى حل سلمي بعيدة المنال. أثار اختيار البابا تعبير "الراية البيضاء" لغطاً كبيراً؛ نظراً لرمزيته واستعماله تقليدياً كعلامة استسلام. ومن الإنصاف التذكير بأن البابا لا يقدم عادة توصيات سياسية أو عسكرية مباشرة، إنما يؤكد أكثر على المبادئ التوجيهية الأخلاقية والروحية لحل الصراعات سلمياً. وبالعودة إلى تصريحات سابقة للبابا، يستطيع المرء أن يستنتج أنه لا يدعو إلى الاستسلام. غير أن المفاوضات بشأن إنهاء الحرب، أو وقف النار على الأقل، مفاوضات قاسية بالدرجة الكافية بالنسبة لشعب تعرض للغزو وأصبح وجوده مهدداً. أوكرانيا غير قادرة على هزيمة روسيا، وأوروبا لا تريد محاربتها بنفسها. تصريحات زعيم الكنيسة الكاثوليكية أتت في وقت قاتل للأوكرانيين، يبدو أن البابا خلص إلى نتيجة مفادها أن الحرب يجب أن تنتهي الآن قبل أن تتفاقم الأمور، إلى "حرب عالمية نووية". إن كلمات فرنسيس ليست مفاجئة، بل تتسق مع دعوته الدائمة لوقف الحروب وبسط السلام في أوروبا أو الشرق الأوسط والعالم؛ تأسيساً على "دبلوماسية السلام" التي ينتهجها، فهل يلقى البابا آذاناً صاغية حقناً للدماء، وهو الذي لا ينفك يردد: "دعونا لا ننسى هذا... الناس بحاجة

للسلام، العالم بحاجة للسلام"؟