أن تكون لديك القناعة الفكرية بأن الإسلاميين في المنطقة العربية غير قادرين على مغادرة «منطق الفشل التاريخي» وقد سبقهم إليه الليبراليّون، والقوميّون، واليساريّون، فهذه قناعة لا يمكن ركنها جانباً. لا عند تناول دور الإسلاميين في ثورات «الربيع العربي» ولا عند تناول الأسلوب الذي يخوض به الإسلاميّون الصراع مع إسرائيل وأمريكا. عدم الانحباس في هذه القناعة أو وزن كل أمر بها شيء، وإنكارها أو تعطيلها شيئا آخر.

إن تعليق المغايرة الفكرية أو الأيديولوجية إلى حين تتميم لحظة كفاحيّة أو صموديّة أو تغييرية ما ليس بالأمر المنطقي إلا إذا كانت هذه المغايرة غير موجودة أساساً.

لقد طرح التيار القومي نفسه كبديل في أعقاب «نكبة» العام 1948 في مقابل كل من قوى التقليد ورموز النهضوية – الليبرالية. وطرح التيار الإسلامي نفسه كبديل بعد «نكسة» 1967 وفشل التجربة الناصرية، وأكثر فأكثر في لحظة «تزامن» خروج مصر من حلبة الصراع مع إسرائيل مع دخول إيران – الثورة إليها.

«النكسة» الثانية للتيار القوميّ، مع تفكيك نظام «البعث» في العراق، وبعدها ترنّح عدد من النظم الجمهورية أمام الانتفاضات الشعبية عام 2011، فضلاً عن نجاح «حزب الله» في إخراج إسرائيل من جنوب لبنان، وانهيار عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية بمجرد وصولها إلى مفاوضات الحل النهائي، كل هذه العناوين والمفاصل وغيرها ما انفكت تزوّد أطروحة «الإسلام السياسي كبديل» بمواد وشواهد ومحفّزات، أقله على مستوى «الإسلام السياسي كبديل لإدارة الصراع مع إسرائيل».

بالتالي ليس تفصيلا هنا إن كنت تجد في الواقع تصديقاً لهذه الأطروحة أو حكماً عليها بالتحلل. كذلك، جاءت التبعات الوخيمة لانهيار التحالف بين أمريكا والجهاديين في أفغانستان وانتقال قسم من هؤلاء إلى غزو أمريكا في حاضرتها، كما الاحتجاج على الإسلاميين وقد استطاعت قوى الارتداد عن الربيع العربي تجيير النقمة عليهم لحسابها، ومن خلال الإطاحة بأول رئيس جمهورية عربي منتخب بالاقتراع الحر التعددي، أو استطاعت الاتكاء على إسلام سياسي ضد آخر، كما في حال سوريا، كل هذا جاء ليقدم سردية أخرى تقول بأن الإسلام، السياسي أو الحركي، كله أو بعضه، اصطدم بالاستحالات ودخل في كنف العبث والتدمير الذاتي.

في الوقت نفسه، وبعد كل هذه المحصلة بإمكانك أن تكون إسلامياً وتقرّ بإن الإسلام السياسيّ فشل حيثما انتدب نفسه لينجح بعد أن فشلت طروح العلمانيين.

وبإمكانك أن تكون غير إسلامي وغير مسلم وترى أن الإسلام السياسي جاء أقل فشلاً أو أكثر قدرة من سابقيه وأن اللحظة التاريخية له حتى اشعار آخر، ولا حسد.

ما لا يمكنك ادعاؤه في المقابل هو أن هذا التقييم، ايجابياً كان أو سلبياً حول دور الإسلام الحركيّ في «الثورات» أو في الصراع مع إسرائيل، لا مكان له عند مقاربة هذه الثورات وهذا الصراع.

فالمساءلة هنا لا تتعلّق حصراً، ولا حتى بالدرجة الأولى، بالاختلاف مع الإسلاميين حول الماوراء والطبائع والشرائع، أو حول حرّية الضمير، بل هي مساءلة شاملة، وبالتالي حضارية، تتعلّق بالرؤية الإجمالية التي قدّمها الإسلاميّون وما في مستطاعهم.

فإذا كنت تتفاءل بأن الإسلاميين قادرون على النجاح حيثما فشل الدنيويون أو كنت على العكس من هذا تتشاءم من صنيعهم فلا هذا الاعتبار ولا ذاك يجوز تعليقه على هوى اللحظة.

لأن التفاؤل والتشاؤم يتعلقان بمجال وشروط وظروف المواجهة في كل لحظة، وبالأخص الآن، في لحظة الحرب الإسرائيلية الأطول والأشد همجية على شعب عربي منذ قيام الصهيونية وإلى اليوم.

وإذا كنت ترى ضروباً من الفشل التاريخي متتابعة وإن يكن متفاوتة بين لحظة وأخرى وبين عقيدة وأخرى، إنما متشاركة بالمحصلة، من حيث النتيجة الإجمالية التي تبقي هذه المنطقة من العالم، أسيرة الاستلاب المزدوج بكل من الاستبداد والاستعمار، وموسومة بالتفاوت المريع في الثروات سواء على الصعد المجتمعية أو بين الشعوب وتهدر مواردها وقدراتها على الصعيد الإقليمي الأشمل، وغير قادرة لا على تدبر حال تعددية دينية ولا تعددية سياسية، وإذا كنت ترى في هذا الفشل الحضاري المزمن بعداً من أبعاد الواقع لا يخرج الإسلاميّون من دائرته ولو رغبوا، فهذا ليس بتفصيل يمكن عزله عن أي تطور سياسي أو عسكري.

بالعكس، كلما كان هذا التطور خطيراً أكثر، كلما كان في محلّه التفكير بالإرث الثقيل لأنماط الفشل التاريخي المتراكم منذ انحسار الاستعمار المباشر تدريجياً في أعقاب الحرب العالمية الثانية وإلى اليوم، وهو إرث مشترك لليبراليين والقوميين واليساريين والإسلاميين ولو ادعى أي رهط أنه خارجه، أو إدعى أنه يمتلك معايير النجاح لو أعطي فرصة من جديد.

«تعليق» المغايرة بين الإسلاميين والدنيويين بحجة الفظيع والداهم ليس سوى انغماس في منطق الفشل والتبديد التاريخيين للحيويات والموارد. كذلك هو الادعاء في المقابل بأنه إن دخل الإسلاميون في نصيبهم هم من الفشل التاريخي عاد ذلك ليشكل فرصة لليبراليين واليساريين، للدهرانيين بعامة، لنقل، كي يمارسوا دورهم الطليعي من جديد.

لأجل ذلك تجد اليوم أن هناك صعوبة في التفكير العربي على مستوى الاعتراف بالفشلين في وقت واحد: فشل الإسلاميين وفشل أخصامهم بين العرب. واحدة من المشكلات أنه وبدل الإقرار بمسؤولية عقائد وسياسات وحركات في الاصطدام مرة تلو الأخرى بالفشل التاريخي، يجري الحديث بشكل ملحمي هنا وتفجعي هناك، إما عن إرادة تصنع المستحيل أياً تكن الشروط الموضوعية والأنساق والبنى وإما عن «عجز».

ثنائية «إرادة وعجز» هذه سيئة.

أن تفشل في أمر، فهذا لا يعني بالضرورة أنك محكوم بالفشل على الدوام، ولا أن الشيء الوحيد الذي حرمك من النجاح هو غياب الإرادة أو نقص الإيمان. ليس هناك أي مجتمع في الدنيا عاجز بالفطرة عن تدبر حال تعدديته الأهلية والسياسية بالتي هي أحسن، وليس هناك أي مجتمع عاجز بالفطرة عن تحسين شروط المواجهة مع المعتدين الخارجيين عليه. والعرب في هذا وذاك مثل بقية الأمم، وإن كانت الحصيلة العملية لتاريخهم السياسي منذ رحيل المستعمر مُحبطة. السؤال الذي يطرح نفسه والحال هذه يتصل بتداعيات الحرب الحالية. إن حكمت النكبة 48 بانقضاء فكر عصر النهضة العربية كما النظام الملكي البرلماني المصري، وإن حكمت النكسة بانقضاء حركة القومية العربية بأفضل ما فيها، المرحلة الناصرية، فماذا عن حكم الحرب الحالية؟

إذا كانت هذه الحرب في نهاية المطاف هزيمة جديدة أو كانت نصراً، في الحالتين لها تداعيات غير منظورة حتى الآن على مجتمعات المنطقة وعلى تياراتها الأيديولوجية والسياسية.

أن لا يكون بالمتسع رؤية المشهد بوضوح من الآن فهذا لا يلغي حجب زاوية النظر إلى ما بعد الحرب. فالتصورات، الخرافيّ منها والواقعيّ، حول ما بعد الحرب، جزء من هذه الحرب أو متمّم لها، وليس البشر من بمستطاعهم عدم التفكير أثناء القيام بالفعل أو أثناء تتبع فعل، ولا بمستطاعهم عدم الفعل أو عدم تتبع الفعل عند القيام بالتفكير.

لأجل هذا، تعليق التفكير، وما منه اتصل بالفشل التاريخي المزمن لمجتمعات ودول المنطقة العربية، إلى ما بعد انقضاء الحرب قد نرغب به جميعاً ذات لحظة، وسط تزاحم الأخبار والمشاهد، الشدائد والمآسي، لكنه في كل لحظة، مستحيل. الاكتفاء بالإنساني دون السياسي، ودون الهم المتصل بالنهوض الحضاري لشعوب المنطقة، هذا الاكتفاء ممكن بل بديهي في حال متضامن «من وراء البحار» لكنه ليس كذلك بالنسبة إلى أي فرد يعيش في البلدان الناطقة على أغلب بنيها بواحدة من اللهجات العربية المتداولة اليوم.