الذين يحاولون فهم السياسة الأميركية الحالية تجاه الحرب في غزة، لديهم أفضلُ شرحٍ في كتاب السفير الأميركي السابق إلى لبنان ونائب وزير الخارجية السابق ديفيد هيل حول الدبلوماسية الأميركية تجاه لبنان، عبر أكثر من نصف قرن تخللتها اجتياحات إسرائيلية عدة وتدخلات خارجية وأزمات متكررة من عهد الرئيس أيزنهاور إلى بايدن. يقدم هيل تحليلاً جيداً ومفصلاً حول السبب وراء المد والجزر والتأرجح في هذه السياسة من تدخل محموم إلى إهمال مدوٍ، طبيعتها المتأرجحة وغير الثابتة، العوامل التي تحدد سيرها، الأخطاء الاستراتيجية، ومسؤولية الأطراف الأميركية، وفي لبنان والمنطقة التي تؤدي في كثير من الأحيان إلى مآسٍ وكوارث جيوسياسية يدفع ثمنها لبنان والمنطقة. يشرح هيل كيف أن نصف قرن من محاولات حصر أزمات لبنان داخل حدوده لكي لا تعرقل المصالح الأميركية في المنطقة انتهت بالسماح لإيران، و«حزب الله»، بالسيطرة على لبنان وإلى ضعف نفوذ أميركا في المنطقة.

يقول هيل إن لبنان لم يكن يوماً بلداً في المرتبة الأولى حتى الثانية في أولويات السياسة الخارجية والمصلحة القومية الأميركية، إلا في لحظات معينة عرضية تحدث فقط حينما يهدد الوضع فيه السياسة الأميركية في المنطقة، أو عندما تريد واشنطن أن تستخدم لبنان كامتحان مبكر لسياستها في المنطقة، مثل ما حدث بين 1943 و1945، واستخدم لبنان لامتحان تطبيق مبادئ ميثاق الأطلسي فيه. أميركا ليست السبب فيما آل إليه لبنان، يقول هيل، ولكن سياساتها ساهمت بذلك.

التدخل الأميركي في لبنان وإنزال المارينز في بيروت عام 1958 جاء في إطار مبدأ الرئيس أيزنهاور الذي ركز على مصداقية الولايات المتحدة وأهمية دورها في المنطقة في مواجهة الخطر السوفياتي. كان هذا التدخل برأي هيل سريعاً، ذا أهداف محددة وناجحة. الرئيس اللبناني كميل شمعون طلب تطبيق مبدأ أيزنهاور موفراً فرصة لهذا التطبيق. يسرد هيل عن أيزنهاور في مذكراته أن رئيس الوزراء اللبناني رشيد كرامي قال له عندما زاره في واشنطن كان من الأفضل أن يرسل مبعوثه روبرت مورفي لحل الوضع، وليس إرسال المارينز. أيزنهاور علق: «لا يمكن لرجل واحد أن يضيق الخلافات التي كانت تمزق لبنان». ونقل عنه تساؤله متحيراً: «كيف يمكن إنقاذ بلد من قادته».

التدخل الأميركي الثاني كان بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، ودخول إيران إلى الساحة اللبنانية الذي منع أميركا من تحقيق أهدافها في المنطقة حسب هيل، حيث إن تحالفها مع سوريا هزم صفقة السلام بين إسرائيل ولبنان.

أصبح لبنان أولوية في اهتمام إدارة الرئيس رونالد ريغان لفترة قصيرة بين 1982 و1984، وكان الهدف منع اندلاع حرب سورية إسرائيلية، والتأكد من ألا يعرقل تهور الوضع في لبنان مبادرة «الإجماع الاستراتيجي» لإدارة ريغان التي ركزت على التوصل إلى إجماع بينها وبين دول المنطقة لمواجهة الخطر السوفياتي. الصورة التي ينقلها هيل عن طريقة صنع القرار الأميركي خلال اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982 للتخلص «من تهديد منظمة التحرير الفلسطينية» شبيهة جداً بما يحدث اليوم في غزة. إسرائيل أخبرت واشنطن أنها ستقوم بعملية محدودة ووصلت إلى بيروت. رفض وزير الخارجية ألكسندر هيغ الضغط على إسرائيل لوقف النار، ولكن في النهاية أوقف الحرب الرئيس ريغان عندما اتصل برئيس الوزراء الإسرائيلي بيغن، وحذّره أن العلاقة الأميركية - الإسرائيلية على المحك إذا لم يوقف وزير الدفاع شارون قصف بيروت. القصف توقف وسحب بيغن من شارون سلطة استخدام سلاح الجو الإسرائيلي. لكن تطمينات أميركا للفلسطينيين لم تمنع مجزرة صبرا وشاتيلا.

يقول هيل إن ريغان كانت نيته جيدة في الثمانينات، لكن لم يستهدف مصدر المشكلة في دمشق وطهران، فإسرائيل وأميركا قصرت عملها العسكري على الأراضي اللبنانية فقط، فدفع لبنان الثمن ولم يكلف ذلك إيران وسوريا شيئاً. ولم يفعل ريغان شيئاً بعد قصف السفارة الأميركية في بيروت، أو مقر المارينز ولم يكن لدى إدارة ريغان استراتيجية لمواجهة دخول قوة إيران إلى المشرق، خصوصاً أن سياسة واشنطن تجاه إيران كانت لاستمالتها.

ويرى هيل أن حصار بيروت أعطى الفرصة لـ«الحرس الثوري» الإيراني ليضع قدمه في لبنان وخلق «حزب الله».

سياسة الرئيس بيل كلينتون كانت ترى سوريا المفتاح الاستراتيجي للمنطقة وللسلام مع إسرائيل. واسترضى المسؤولون الأميركيون الرئيس الأسد، وعدّوا وجود سوريا في لبنان شراً لا بد منه للتعامل مع تهديد «حزب الله». اتَّسمت السياسة بالتأرجح وعدم الثبات تجاه إيران فكانت تنتقل من العداوة إلى الغزل من طرف واحد. أدَّت هذه السياسة إلى تقوية دور سوريا في لبنان وتقوية «حزب الله».

سياسة الرئيس جورج بوش نجحت في تحقيق أهدافها المحدودة في لبنان عام 2004 - 2008، حيث عملت مع فرنسا على انسحاب سوريا من لبنان، وتحقيق أممي في اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإجراء انتخابات كجزء من أجندة الحرية التي كانت تتبناها. لكن الحرب الإسرائيلية على لبنان عام 2006 اصطدمت بأجندة الحرية في لبنان وقلصت هذه الحرب من نفوذ أميركا في لبنان ولم تتمكن من التعامل مع مشكلة «حزب الله». بعد 2008، عادت سياسة أميركا إلى إهمال لبنان وعدم الثبات.

الرئيس أوباما خرج من الحكم من دون أي نتائج ملموسة لطموحاته بسلام في الشرق الأوسط. لكن تغيير رأيه عن خطوطه الحمراء والتراجع عن معاقبة سوريا لاستخدامها الأسلحة الكيماوية «صدم حلفاء أميركا في المنطقة»، ونقل هيل عن ريتشارد هاس قوله إن هذا كان «تاريخ نهاية تفوق أميركا في الشرق الأوسط». كما أن مفاوضاته السرية مع إيران وتوقيع الاتفاق النووي معها أقلق حلفاء أميركا في المنطقة.

الرئيس دونالد ترمب وصل «من دون أجندة محددة» سوى إعادة اعتبار قوة أميركا في المنطقة. وأدَّت سياسة الواقعية التي تميزت بها إدارته إلى «الاعتراف بالقدس كعاصمة لإسرائيل والاعتراف بضم الجولان». وكانت اتفاقات إبراهام حسب هيل «كاعتراف أن الطريق إلى السلام العربي - الإسرائيلي لا يمر برام الله، وإنما من خلال توجه أمني مشترك للتعامل مع التهديد المشترك الذي تمثله إيران». وفي موقف هدفه ردّ اعتبار أميركا كان جواب ترمب على استخدام القوات السورية الأسلحة الكيماوية تدمير القاعدة الجوية التي أطلقت منها هذه الأسلحة، على عكس ما فعل أوباما.

يعدّ هيل أن إدارة الرئيس بايدن «نجحت في التوصل إلى اتفاق حول الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل، ولكن المسؤولين الأميركيين سيجدون مغرياً أن يعمدوا إلى سياسة الإهمال حتى تنفجر أزمة تهدد العرض على الطاقة في المتوسط». هذا الإهمال لم يدم طويلاً بسبب حرب غزة والتخوف من انتقالها إلى لبنان وتحولها إلى حرب إقليمية.

عدم الثبات في السياسة الأميركية مرده لتغير الإدارات ولعوامل تتعلق بالسياسة الداخلية من انتخابات إلى دور الكونغرس ودوائر الضغط، وهذا التغير يرسل رسالة إلى الأطراف الخارجية، خصوصاً في الشرق الأوسط، إذا كنتم تعانون من السياسة الأميركية، يقول هيل، يمكنكم توقع تغيير بعد 4 أو 8 سنوات. ويرى أن هذا الواقع هو ثمن الديمقراطية وتداور السلطة.