لا يُسمع لإيران صوت عالٍ بما يكفي إزاء ما يجري في غزة راهناً، ورغم ذلك فإن معظم الساسة والمعلقين المهتمين بهذه الحرب الدامية يدركون تماماً أبعاد علاقة إيران بها.

من السهل جداً إدراك الروابط التنظيمية واللوجيستية والمالية بين الجمهورية الإسلامية من جانب وبعض الفصائل المقاتلة في غزة من جانب آخر، كما يسهل أيضاً إدراك فحوى الموقف الإيراني المُعلن الذي يرى في هذه الحرب صورة من صور «المقاومة الإسلامية للاحتلال الصهيوني»، ونوعاً من أنواع المواجهة مع «الشيطان الأكبر» الأميركي، الذي يدعم «ربيبته» إسرائيل، ويوطد لها.

لكن هذا التبني البادي، وذاك التأييد المُعلن، لم يتطورا إلى سياسات واضحة على الأرض من جانب طهران التي اختارت أن تكتفي في هذه المرحلة بشيء من «المشاركة المعنوية».

وضمن تلك «المشاركة المعنوية»، حملت إلينا الأخبار الواردة من طهران تصريحات لافتة لـ«قائد الثورة الإسلامية» السيد علي خامنئي، خلال لقاء رمضاني مع عدد من الشعراء البارزين في البلاد، وفي هذا اللقاء أكد أهمية الشعر في مقاربة القضايا الكبرى، بل إنه عده أيضاً بمنزلة «وسيلة إعلام».

وعندما استمع القائد إلى قصيدة حماسية عن حرب غزة، راح يقترح أن تُترجم إلى العربية، وأن تُنشر في غزة، لتكون «خير عون» للمقاتلين والسكان، بما يمكن أن تبثه فيهم من مشاعر، خصوصاً أنهم بحاجة ماسة إلى «التآزر».

وفي شرحه مقاصده تلك، أثنى مرشد الجمهورية الإسلامية على الإعلام، وبيَّن أهميته الكبيرة في الصراعات، حتى إنه رأى أن تأثيره في العدو «أكبر من تأثير الصواريخ والطائرات والمسيّرات»، وأنه قادر على أن يفرض التراجع على الأعداء، وأن يكسب القلوب والعقول.

ينضم السيد خامنئي في توصيفه لدور الإعلام إزاء الصراعات العنيفة إلى عدد كبير من القادة العقائديين، الذين لفتوا أنظارنا مبكراً إلى مدى تأثير الإعلام في صياغة الرأي العام، وبلورته أثناء الصراعات والحروب. وبين هؤلاء القادة، سيبرز الزعيم الألماني أدولف هتلر، الذي يقول في كتابه «كفاحي»: «إن دور حاجز النار الذي تنفذه المدفعية، ستقوم به في المستقبل الدعاية التي ستعمل على التحطيم المعنوي للخصم قبل أن تبدأ الجيوش عملها ».

وقد كان الزعيم السوفياتي الشيوعي الراحل نيكيتا خروتشوف أكثر وضوحاً في ذلك؛ إذ قال بدوره: «الصحافة سلاحنا الفكري والآيديولوجي، فإذا كان الجيش لا يستغني عن السلاح في القتال، فإن الحزب الشيوعي لا يستطيع القيام بأعماله في الميدان الفكري والآيديولوجي بغير سلاح الصحافة».

لكن الدكتور أيمن الظواهري، زعيم تنظيم «القاعدة»، الذي أعلنت السلطات الأميركية تمكنها من قتله قبل نحو عامين، كان أكثر تحديداً في تشخيص الدور الذي يلعبه الإعلام في المعارك والصراعات الكبرى، حين أرسل رسالة مناصحة إلى زعيم التنظيم في العراق أبي مصعب الزرقاوي، في عام 2005. وفي تلك الرسالة، قال الظواهري، الذي كان الرجل الثاني في التنظيم آنذاك، لتابعه الزرقاوي: «وتذكر دائماً يا أخي أن نصف معركتنا في الإعلام».

أما تنظيم «داعش» الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، في الفترة التي أقام فيها دولته، خلال العقد الماضي، فقد كان أكثر إيماناً بفاعلية الإعلام في تحقيق أهدافه. فقد طوّر هذا التنظيم استراتيجية إعلامية ساعدته في جميع مراحل عمله؛ بداية من «الدعوة» والتجنيد، ومروراً باستهداف «الأعداء»، والتأثير في معنوياتهم، وانتهاءً بتسخير الأدوات الإعلامية في العمل الميداني.

لم يتوقف القادة العقائديون إذن عن استخدام الإعلام، والتعويل عليه، في حروبهم وصراعاتهم، ويبدو أن المغزى في ذلك يعود لسببين رئيسيين؛ أولهما ما يتصل بالقدرة التأثيرية للإعلام، وهي قدرة لا يبدو أن ثمة خلافاً على وجودها. وثانيهما يتعلق بأن التركيز على استخدام وسائل الإعلام في بعض الصراعات، التي يخوضها قادة عقائديون، إنما يجنبهم دفع أثمان المواجهة الصريحة والمفتوحة، وتكاليف الأفعال الملموسة، ويبقيهم في الوقت نفسه بمنأى عن نقد أتباعهم وحلفائهم، في ظل إظهارهم الاهتمام، والمشاركة، والتأثر.

يعطي التركيز على استخدام وسائل الإعلام للقادة العقائديين البراغماتيين حلاً سحرياً، يتفادون من خلاله التورط في منازلات صعبة، ويستبدلون، من خلاله، الرطانة والكلام الحماسي والدعاية المباشرة بمتطلبات الأدوار الصلبة والمُكلفة.

تمتلك الجمهورية الإسلامية أدوات صلبة كثيرة يمكن من خلالها أن تترجم مواقفها العلنية الداعمة لغزة و«حماس» وغيرها من الفصائل المقاتلة ضد «العدو الإسرائيلي»، وهي أدوات لا تقتصر فقط على الطائرات والصواريخ والمسيّرات، لكنها تشمل طيفاً عريضاً من الوسائل السياسية والاقتصادية.

ومع ذلك، فإن القائد خامنئي وجد أن الإعلام والقصائد الحماسية الملتهبة يمكن أن تعوض ذلك، بل أن تكون أكثر تأثيراً.