شغل علماء الإدارة في الستينات تساؤل وجيه، وهو: لماذا يُكتب الفشل لخدماتنا ومنتجاتنا رُغم جودتها الفائقة والأخذ بأسباب التفوق؟ على سبيل المثال: لماذا فشلت «ستاربكس» فشلاً ذريعاً بعدما أقدمت على دخول أستراليا، رغم أنها أشهر سلسلة مقاهٍ بالعالم؟ لماذا ظل ذلك المقهى على تخوم إيطاليا 47 عاماً، ولم يتمكن هاورد شولتز، الرئيس التنفيذي، من اختراقها عبر ميلانو إلا في عام 2018، رغم أن الفكرة الأساسية انبثقت من زيارته لمقاهيها، فقرر أن ينقلها إلى أميركا؟ لماذا يتفوق تصنيع جهاز «آيفون» وغيره في الصين على جودة منتجات البلدان المتقدمة، وبسعر لا يُضاهَى؟

الإجابة باختصار: أن فشل المقهى الأميركي في أستراليا يعود إلى عوامل اقتصادية واجتماعية وغيرها، حالت دون فهم طبيعة البيئة هناك، فاضطر إلى إغلاق معظم مواقعه عام 2008. ومن الأسباب أيضاً ما يعود إلى عدم استساغة الأستراليين لكميات السكر المبالغ فيها بالقهوة، واختلاف أذواقهم في مذاقات «الإسبريسو» التقليدية التي لم يلبِّها لهم الأميركيون. ولم تدخل «ستاربكس» عقر دار المقاهي (إيطاليا) إلا بعد انتظارها للوقت المناسب الذي خرجت فيه أجيال شابة في إيطاليا صارت تتقبل فكرة منافسة أميركية في بلادها، فضلاً عن لجوء «ستاربكس» إلى حيلة تصميم مقهى ينبثق من روح أجواء وتقاليد المقهى الإيطالي؛ حيث يقدم 100 صنف، عدد منها لا نظير له سوى في إيطاليا. وأصبح المقهى الذي شاهدته بنفسي وقت افتتاحه معلماً سياحياً، أو أقرب إلى المتحف بتصميم داخلي أنيق، ليحاكي بيئتهم ويلمس وجدانهم وهم يرون بني جلدتهم يخدمونهم؛ حيث تنتصب في قلبه المحمصة الكبرى التي تدور رحاها لتبعث بـ«عبير» البن المحمص إلى خارج أسواره.

هذه الأمثلة تجسد ما اكتشفه علماء بعد أبحاث عديدة، أن العالم قد دخل حقبة النُّظُم «systems approach» وهو أن المنشآت لم تعد معملاً أو منظمة مستقلة في ضاحية أو قرية، ولكنها صارت تعيش في كيان من العناصر التي يعتمد ويتفاعل بعضها على بعض. فمهما كانت جودة المنتجات والخدمات وسجلها الحافل فإنها قد تواجه فشلاً ذريعاً بسبب قوانين مقيدة على التصنيع أو التصدير أو الاحتكار أو التوسع وغيرها. وربما تتعثر بسبب حادثة معينة أو عدم تلبية تطلعات الناس. ولذلك أصبحت الإدارة المعاصرة تعني أن المنظمة تعمل وتتأثر بالمدخلات التي تمر بعمليات وأنشطة، ثم تصبح لديها مخرجات (منتجات وخدمات).

إذن، صرنا نعيش في دائرة إدارية تحكمها البيئة الخارجية التي نعمل فيها. ولذلك صارت الشركات التي تبقى في معترك التنافس هي تلك التي تستفيد من المعلومات المرتدة «feedback» عن أسباب القصور أو التغييرات القانونية والسياسية والبيئة والاقتصادية والاجتماعية، ثم تتكيف معها بسرعة قصوى. وهذا مما يبقي شركات على قيد الحياة ويجعلها تتصدى للمنافسة الضارية.

إذن، نحن نعيش في حقبة الإدارة المعاصرة، فلا يمكن أن نحمِّل مجلس إدارة فقط تداعيات النتائج، فالإدارة العليا كذلك مسؤولة عن متابعة كل شاردة وواردة في البيئة الخارجية التي تعمل فيها، حتى تعدل مسارها وعملياتها، لتستمر في ميادين المزاحمة على الابتكار والاستدامة والنجاح.