قبل أيام، وصف ترمب مجموعة من القتلة من أصول مهاجرة بـ«الحيوانات». وبعد ذلك قال إن نانسي بيلوسي طلبت منه مراراً ألا يصفهم بـ«الحيوانات»، ولكنه أصر على إعادة التسمية وقالها مرة أخرى.

لماذا؟ السبب واضح لتجييش قاعدته الشعبية المعارضة للهجرة غير الشرعية بهذه التعابير النارية؛ خصوصاً مع ازدياد الانتقادات التي تواجهها إدارة الرئيس بايدن. لهذا عندما تحدث جريمة من هذا النوع ستكون فرصة مناسبة لاستغلالها بكل الطرق، لكسب مزيد من الأنصار. وسترى هذه الحادثة هي العنوان الرئيسي في «فوكس نيوز».

الشيء ذاته يحدث في الاتجاه المعاكس، عندما يقتل شرطي أميركي شاباً من أصول أفريقية، تتحول الشرطة كلها إلى جهاز عنصري، وتبدأ المطالبات بالمحاكمات وعدم تمويل الشرطة، رغم الدور الكبير الذي تلعبه في بسط الأمن. ومع غيابها تندلع عمليات النهب والسلب وإحراق المتاجر، وهذا تكرر أكثر من مرة. وسترى أن عملية القتل المتعمد أو الخطأ هي العنوان الأساسي على محطة «سي إن إن».

هذا يعكس الانقسامات داخل أميركا، وهي ليست بجديدة، ولكنها تصاعدت مع ثورة الاتصالات؛ حيث يقول فريد زكريا في كتابه الجديد «Age of Revolutions» إنه في السابق كان الأميركيون يتابعون محطات قليلة معتدلة في خطابها، ولكن مع الانفجار المعلوماتي تحولت الجماهير إلى خيارات أخرى، وبقي المخلصون المسيّسون يميناً ويساراً يتابعون قنوات حزبية تعزز توجههم المسبق، ما زاد من الانقسام.

شخصية ترمب نفسها أيضاً تثير مزيداً من الانقسامات؛ ليس فقط داخل أميركا، ولكن خارجها. المعارضون لترمب يرون أن سلوكه إهانة للرئاسة، وأنه يسهم في انقسام المجتمع ويهدد الديمقراطية. الأوروبيون خائفون منه لأنهم يرون أنه سيضعف «الناتو» والتحالف معهم، وسيقترب من بوتين أكثر، ويتخلى عن أوكرانيا.

ولكن لترمب أكثر من نسخة. النسخة التي يتحدث بها غير النسخة التي يفعلها. والنسخة التي يراها الغربيون هي غير النسخة التي يراها الشرقيون. هو يستخدم الدين ولا علاقة له بالدين. يشتم النخبة وهو من النخبة. داخلياً، من الصحيح أن سلوك ترمب لا يليق برئيس الدولة العظمى في العالم، وتغريداته خارجة عن اللياقة، ولكن عندما كان في البيت الأبيض انتعش الاقتصاد قبل الوباء. وانتعاش الاقتصاد يعني تقوية الدولة، وقتَل سليماني والبغدادي.

هل المهم إذن حديث الرئيس وسلوكه الشخصي أم أفعاله؟ هذا سؤال جدلي، ولكن الرؤساء لهم أخطاء فادحة، والرئيسان كلينتون ونيكسون ارتكبا أخطاء فادحة، ولا يلغي هذا من كونهما رئيسين كبيرين في التاريخ. وهناك رؤساء سلوكهم الشخصي مثالي، وأزواج مخلصون، وحديثهم ساحر، ولكن سياساتهم ليست مثالية؛ بل كانت مضرة.

هل يمكن أن يهدد ترمب الديمقراطية ويتسبب في انهيار الولايات المتحدة؟ لماذا لم يفعلها في المرة الأولى؟ هذه مبالغات، ورغم أنه هدد وتوعد سابقاً بالبقاء فإنه غادر البيت الأبيض في موعده. أميركا ليست جمهورية موز، ولا يمكن لترمب أن يغير نظامها أو يحوّلها إلى ديكتاتورية. لماذا يتردد هذا؟ في سياق المعركة الانتخابية الحزبية التي أصبحت لا تتوقف طوال العام وأججتها وسائل التواصل.

فيما يخص الأوروبيين، من الصعب جداً أن يخرج ترمب من «الناتو». ترمب عجز أن يخرج من سوريا بعد أن أعلن ذلك وأوقفه جنرالات «البنتاغون». فهل يمكن له أن يخرج من «الناتو» رمز السيادة الأميركية على العالم؟ القرار ليس بيده، حتى لو أراد ذلك.

للرئيس الأميركي حدود أيضاً. لماذا يشاغب على «الناتو»؟ لأنه يريد أن يظهر بصورة القوي الذي يهدد، ويدفع الأوروبيون المال رغماً عنهم، وهي رسالة موجهة لجمهوره في الداخل بأنه صاحب صفقات، وينجز ما لم يستطعه غيره. وقد فعلها تقريباً مع كل من كوريا الجنوبية وألمانيا وبريطانيا وكل حلفائه. كلام للاستهلاك الإعلامي لا أكثر.

النظرة لترمب شرقاً تختلف إلى حد ما عن النظرة في الغرب. الشخصية الفوضوية الطويلة اللسان الاستعراضية كما ينظر إليها الأميركيون والأوروبيون لا تهم شرقاً، والمهم هو سياسة الولايات المتحدة في المنطقة، وهو دعم قوى الاعتدال في مواجهة قوى الفوضى. وهو هدف لا يتعلق بترمب وبايدن، ولكن بأي رئيس أميركي قادم. ولكن هذا الهدف المهم لنا لا يهم كثيراً الداخل الأميركي المنقسم على نفسه. الديمقراطيون يصفون ترمب بالفاسد والفضائحي، والمحافظون يصفون بايدن بالضعيف والخرف، ولكنهم لا يرون -وهذا مفهوم- خارج حدود بلادهم وصراعاتهم الداخلية ومصالحهم الحزبية الضيقة. لا يهمنا إذا كان بايدن نائماً أو ترمب فاسداً، المهم هو كيف يفكّران في الشرق الأوسط.