لم تقع الحرب بين إيران وإسرائيل، والأرجح أنها لن تقع أبداً. ما جرى ليل السبت - الأحد لم يكن حرباً على الإطلاق. كان اشتباكاً منتظراً ومعروفاً بشكل كبير لدى مجموعة غير قليلة من الأطراف المعنيين. حتى المواطن العادي كان يعرف أن إيران ستهاجم من أرضها مباشرة بالطائرات المسيرة والصواريخ وهي أسلحتها الفعالة والوحيدة، غذ لا تملك طائرات مقاتلة يمكن أن تطير في أجواء يسيطر عليها أعداؤها. كاد قادة إيران السياسيون والعسكريون المفرطون في التصريحات العسكرية والتهديدات بالتدمير والإزالة من الوجود يجاهرون بخططهم الحربية وأهدافهم المحتملة في حرب اعتبروها حرباً نفسية تلاعباً بأعصاب الإسرائيليين الذين استنفروا كل إمكاناتهم وحشدوا تأييداً غربياً واسعاً إلى صف قواتهم التي وضعت في حال تأهب.

حصل الاشتباك الذي اعتبره بعضهم مسرحية متفقاً على فصولها بين الطرفين برعاية أميركية، أخرجتها بالشكل الذي خرجت به لتعلن كل من إيران وإسرائيل أنها انتصرت في المعركة وحققت أهدافها، فيما اعتبره بعض آخر منعطفاً مهماً في الصراع في الشرق الأوسط، إذ دخلت إيران رسمياً في حلبة الصراع مع إسرائيل وباتت طرفاً فاعلاً فيه، بعدما كانت مشاركاتها تقتصر سابقاً على ميليشياتها المنتشرة من اليمن إلى لبنان. فيما راح آخرون إلى حد اعتبار أن إيران تورطت في معركة خاسرة أتت نتائجها في غير مصلحتها، لا بل صبت في مصلحة إسرائيل ورئيس وزرائها بنيامين نتنياهو.

قراءة هادئة في الحدث يمكن أن تقود إلى بعض الاستنتاجات المنطقية التي تفسر ما حدث وما يمكن أن يحدث ومن ربح ومن خسر وكيف؟

السؤال الأول البديهي الذي يطرح هو من ربح: إيران أم إسرائيل؟ الجواب البديهي الذي جرى على الألسن وفي وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي أن الهجوم الإيراني لم يحقق أهدافه، على الأقل تلك التي أعلنها قادة إيران قبل الهجوم، وأن طهران لم تستطع تحقيق أي أهداف ذات قيمة عبر هجوم أعدت له على مدى أقل من أسبوعين بقليل، وجعلت العالم يقف على رجل ونصف بانتظار الرد الساحق الماحق على قصف مبنى قنصليتها في دمشق وقتل سبعة من قياديي حرسها الثوري. في المقابل، ضج الإعلام الإسرائيلي والغربي والعربي غالباً بأخبار إسقاط معظم الطائرات المسيرة والصواريخ الإيرانية قبل وصولها إلى أجواء فلسطين المحتلة أو فوقها.

لكن كانت لإيران ومحورها وجهة نظر مخالفة تماماً، فإعلام هذا المحور روج لنظرية أن إيران حققت أهدافها المرسومة تماماً، وقد حرص القادة الإيرانيون بعد العملية على القول إن الهدف لم يكن أبداً قصف المنشآت الاقتصادية والحيوية ولا إيقاع إصابات في الأرواح، بل كان إيصال رسالة بأن إيران لن تسمح بعد اليوم لإسرائيل بضرب أهداف إيرانية، وأنها سترد مباشرة على أي اعتداء، وكذلك تأكيد قدرتها على الوصول إلى مفاعل ديمونا النووي وتهديده ما دامت استطاعت إيصال صواريخ إلى قاعدة نتافيم الجوية القريبة من المفاعل، رغم كل الدعم الدفاعي الذي تلقته إسرائيل من حلفائها.

إسرائيل اعتبرت نفسها رابحة في هذه المعركة السريعة التي لم تؤد إلى خسائر في الأرواح، بل إلى أضرار طفيفة في القاعدة الجوية لم تؤثر على حركة الطائرات فيها، علماً أن معظم الطائرات الإسرائيلية كانت في الجو منذ انطلقت الطائرات المسيرة والصواريخ الإيرانية من قواعدها في إيران والعراق واليمن، في رحلة طويلة مكشوفة وتحت رقابة الأقمار الاصطناعية الأميركية والبريطانية والفرنسية، فضلاً عن الإسرائيلية وطائرات التجسس والأساطيل الغربية في البحرين المتوسط والأحمر والمحيط الهندي.

لم تتصد إسرائيل بمفردها وبقواها الذاتية للهجوم الإيراني، كان هناك تحالف غربي تقوده أميركا إلى جانبها، هذا التحالف تشكل أساساً من أميركا وبريطانيا ثم من فرنسا وألمانيا اللتين سارعتا للحاق به كي لا تفوتهما فرصة الاصطفاف مع إسرائيل في ما يعتبره الغرب حرباً وجودية على إسرائيل. هذا يعني أن إسرائيل باتت بحاجة دائمة لمن يحميها، وتستطيع إيران أن تزعم أنها واجهت إسرائيل وحلفاءها في هذا الهجوم الليلي.

يعرف نتنياهو منذ الآن أن إسرائيل كدولة بحاجة إلى مظلة حماية أميركية – غربية دائمة، وأن لذلك ثمناً بدأت بوادره بالظهور عندما أعلن الرئيس الأميركي جو بايدن أنه لن يرفض رداً إسرائيلياً على إيران ولن تشارك قواته فيه. أكثر فأكثر تبرز حاجة إسرائيل للحماية بعدما شعر العالم بعجزها عن حماية نفسها وعن إنهاء حربها في جيب محاصر في غزة طوال أكثر من ستة شهور.

قد تكون المعركة الجوية عوّمت نتنياهو الذي كان على وشك الغرق وشدت من العصب الداخلي حوله وحول زمرة اليمين المتشدد، لكن ذلك قد لا يكون لزمن طويل، وهو سيكون قريباً في مواجهة مع الرئيس الأميركي حول كيفية إدارة حرب غزة وحل الدولتين الذي يرغب الرئيس الأميركي في الوصول ولو إلى اتفاق إطار حوله ينقذ معركته الانتخابية الرئاسية التي تترنح في مواجهة خصم شعبوي معارض للحروب هو دونالد ترامب.

أبعد من ذلك، أتت المعركة لتؤكد أن المنطقة ما زالت حديقة خلفية لأميركا التي ربما تكون تخلت عن فكرة مغادرتها إلى مناطق أخرى. إسرائيل في المنظورين الأميركي والغربي أهم من أوكرانيا، الخط الأحمر الوحيد ربما هو إسرائيل. روسيا لم تعد ذات فعالية أمنية وعسكرية في المنطقة، وجودها في سوريا هو وجود أمني داخلي، حرب أوكرانيا أتعبتها وأبعدتها، وقاعدتها في حميميم هي قاعدة مراقبة ليس إلا. أما الصين فلا يعوّل عليها إلا في التجارة.