قصد المهاتما غاندي الشاب جنوب إفريقيا للعمل تحت ضغط الحاجة المعيشية، فبعد تخرّجه من بريطانيا محامياً وعودته إلى وطنه الأم، الهند، وجد أبواب مهنة المحاماة مغلقة في وجهه بسبب هيمنة الإنجليز يومها على القضاء وقطاع المحاماة نفسه، حيث كانوا يُعاملون الراغبين في ممارسة المهنة من الهنود بالازدراء والتجاهل، ما اضطره، يومها، إلى أن يعمل محرراً للعرائض، كالكتبة الذين يجلسون على طاولات صغيرة أمام المحاكم لمساعدة من لا يستطيعون الكتابة، كما ينقل الكاتب يوسف أبو الحجاج الأقصري في كتابه «غاندي روح الهند العظيم». ولقاء ذلك كان غاندي «يتكسب» دخلاً مالياً متواضعاً لا يفي باحتياجات أسرته.

يُفيدنا الكتاب نفسه أنه في غمرة ضائقة غاندي المالية، سيأتيه، في العام 1893، عرض من رجل أعمال هندي مقيم في جنوب إفريقيا بالدفاع عنه أمام المحاكم، هناك، في قضية مالية كبرى تخصّ شركته، فوجد غاندي في ذلك العرض فرصة للخروج مما يعانيه من مصاعب، وسافر إلى هناك، ليتولّى الدفاع عن قضية الرجل الذي دعاه، آملاً في أن يفتح له ذلك الباب لتحقيق ما حالت ظروف بلاده أن يكونه: محامياً ناجحاً.

درس غاندي ملفّات القضية المعروضة عليه بعناية، وأعدّ دفاعه، وتوجّه إلى المحكمة في الموعد المحدد للجلسة التي ستنظرها، مرتدياً بذلة أنيقة، وحذاء لامعاً، واضعاً على رأسه العمامة الهندية الشهيرة، ليفاجأ أن التمييز الذي طاله بعضه في بلده الهند، سينال منه في مكانه الجديد أيضاً، حيث إن القاضي الإنجليزي المتعجرف الذي ينظر القضية طلب منه خلع عمامته. لم يستجب غاندي للطلب المتعجرف وخرج من قاعة المحكمة غاضباً.

أدرك غاندي، يومها، ولنقل من باب الدقة تأكد، أنه أمام ممارسي العنصرية والتمييز البيض أنفسهم، القادمين من قارتهم العجوز إلى بلدان آسيا وإفريقيا ليستعمروها ويستغلوها، لا بل ويستوطنونها كما فعلوا في جنوب إفريقيا، وربما أوشكوا أن يفعلوا شيئاً مشابهاً في بلده، الهند، التي اعتبروها «درّة تاج» الإمبراطورية البريطانية.

ليست هذه التجربة الوحيدة التي أثارت حنق غاندي هناك، فذات سفرة له بالقطار إلى بريتوريا حجز لنفسه مكاناً بالدرجة الأولى، وفي أول محطة توقف فيها هذا القطار صعد مفتش أبيض للتحقق من تذاكر الركاب، وما إن دخل المفتش المقصورة التي يجلس فيها غاندي، ولاحظ بشرته السمراء حتى أمره، من فوره، بمغادرة المقصورة والانتقال فوراً نحو مقاعد الدرجة الثالثة المخصصة للملونين، وحتى حين أراه غاندي تذكرة حجزه على الدرجة الأولى أصرّ المفتش على رأيه، وأحضر شرطياً أخرجه قسراً هو وحقائبه من المقصورة.

كما غادر قاعة المحكمة غاضباً، اختار غاندي مغادرة القطار، لا الانتقال إلى الدرجة الثالثة.