منذ إعلان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون عن تحديد يوم 7 أيلول (سبتمبر) 2024 موعداً للانتخابات الرئاسية، لم تشهد الساحة السياسية الوطنية حتى الآن أي نقاش جدّي، لا على مستوى الأحزاب ووسائل الإعلام بأنواعه، أو على مستوى تنظيمات وروابط واتحادات المجتمع المدني، حول أمهات القضايا الكبرى التي تعني مستقبل الدولة الجزائرية تربوياً وثقافياً واقتصادياً وسياسياً ووحدة وطنية وعلاقات خارجية.

وسط هذا المناخ، لا نسمع سوى أصوات بعض الذين أعلنوا عن ترشحهم إلى السباق الرئاسي وعددهم قليل، وتصريحات عدة خجولة لهذا الحزب أو لتلك الشخصية حول مسائل ذات طابع نقابي، مثل الزيادات المنتظرة في رواتب المتقاعدين، أو ذات طابع أمني خارجي وتتمثل في التحذير من تعقيدات علاقة الجزائر بدول الساحل الإفريقي، وبخاصة العلاقة المتدهورة مع مالي والنيجر... إلخ.

وفضلاً عن ذلك، هناك من يكتفي بالتساؤل عن أسباب عدم حسم السلك الدبلوماسي الجزائري ملف "الذاكرة" مع السلطات الفرنسية بقيادة الرئيس إيمانويل ماكرون، وغيرها من الأمور التي يفترض أن تُطرح للنقاش والحوار على مستوى المؤرخين وصنّاع الفكر السياسي ومهندسي مخططات واستراتيجيات الدولة.

في هذا السياق، يتساءل مراقبون ومحللون سياسيون جزائريون: لماذا لا يوجد في الجزائر مراكز تفكير وفكر للدولة؟ وهل يمكن أن تنجز الجزائر طور التحديث والعصرنة بلا مخططات مؤسسة على الفكر العلمي الاستراتيجي من خلال القراءة الدقيقة والعلمية للواقع الجزائري بكل تشابكاته وتعقيداته؟ ثم لماذا بقيت أحزاب المعارضة مجرد إقطاعيات تطغى عليها قيادات ضعيفة لا تظهر إلّا في المناسبات الانتخابية حيناً وفي الجنازات عند وفاة هذه الشخصية التاريخية أو مغنٍ متخصص في الأناشيد السياسية أو لاعب كرة قدم شهير كان يوظف للتهدئة أثناء اندلاع الانتفاضات أو التمرّدات هنا وهناك وهلمَّ جرَّا؟

وفي الواقع، فإنّ غياب مراكز التفكير للدولة في الجزائر على مستوى الجامعات وروابط المجتمع المدني بكل تنوعاته يرجع أصلاً من حيث الشكل إلى عوامل عدة، وفي مقدمتها التغييب المنهجي للحوار في المجتمع الجزائري منذ استقلال البلاد عام 1962 واللجوء باستمرار، إما إلى أسلوب الكبت السياسي الناعم الذي يُمارس من فوق للتعامل مع الأزمات التي ما فتئ يعاني منها المجتمع، أو إلى آلية الزجر المادي ضدّ من يحاول أن يرفع صوته النقدي بوضوح، قصد تصحيح الأخطاء والكشف عن المتسببين مباشرة في فشل التنمية بكل أنواعها ومراحلها.

أما من حيث المضمون، فيمكن إرجاعه إلى فهم القيادات الجزائرية التي تعاقبت على الحكم للدولة على أنّها تنظيم سياسي يُدار فردياً أو شللياً وليست تنظيماً اجتماعيا ينشط من طرف القوى الوطنية المثقفة والمفكرة.

وفي الحقيقة، فإنّ الخلاف العميق الذي حدث ولا يزال بين الفرقاء السياسيين الجزائريين منذ بداية استقلال الجزائر عام 1962 يمكن اختزاله في عدم حصول أي تفاهم حول الأولويات ذات الصلة بعملية تأسيس المشروع الوطني، الذي هو في الواقع من اختصاص النخب التي تضطلع بالتفكير للدولة ضمن أطر متعارف عليها في البلدان التي تجعل التخطيط للدولة أولوية وضرورة.

وفي هذا الخصوص نجد برامج التنمية في الجزائر تلحق دائماً بالسلطات تفكيراً بها وتنفيذاً لها، وفي هذا السياق نجد أفراداً قليلين بلا سلطة حقيقية، وإن كان بعضهم ينتمي إلى فسيفساء قيادات حركة التحرّر الوطني، قد نادوا باحتشام بضرورة بناء طور المجتمع وفق رؤية مدنية، ثم الانتقال بعد ذلك إلى بناء طور الدولة ومؤسساتها التي ينبغي أن تكون تعبيراً لطور المجتمع.

ولكن التيار المقابل والأقوى في أعلى هرم النظام الجزائري يفهم الدولة على أنّها شكل إداري يُختزل في الحكومة ومؤسساتها المركزية والموجودة عبر البلديات والدوائر والمحافظات، أو أنّه نظام حكم مؤسس على فكرة الزعيم وتجسيداتها، أي أنّ الدولة عند هذا التيار المسيطر هي السلطة المركزية الحاكمة بقيادة الفرد الواحد والدوائر التي تعينه أو تدور حوله.

ونتيجة لذلك، فقد غاب التفكير العلمي في أمور الدولة وجراء ذلك آلت شتَى الصراعات التي دارت بين الفرقاء السياسيين إلى انتصار التيار الذي يقوده الحاكم الواحد مرة بدعم حزب واحد، ومرة بمساندة أحزاب تنطق بلسان الحزب الواحد المركب بشرياً من فسيفساء الايديولوجيات التي حدّدت لها وظيفة إعادة إنتاج خطابات السلطة المركزية وإخفاء تناقضات حتى ذلك الفسيفساء العقائدي. وعلى أنقاض هذا الفهم الأخير وتجسيداته السلبية بقي الحوار في الجزائر مجمداً، ويعوّض عن وعي حيناً وعن لاوعي أحياناً كثيرة، بصراعات شللية تدور نمطياً حول "كرسي الحكم" وليس حول مفهوم ومضمون الدولة الحداثية وتطبيقات العصرنة التي يفترض أن تنهض على رافعات التقدّم الاجتماعي والثقافي والإخلاقي الجماعي.

وفي هذا السياق يرى محللون سياسيون جزائريون أنّ عدم وجود مراكز تفكير للدولة في الجزائر هو نتاج أيضاً لشبكة من الأسباب الأخرى، منها هيمنة ما يدعوه أحد المفكّرين "إرث الدولة السلطانية"، وسيطرة برتوكولات الإدارة البيروقراطية كأسلوب لضبط المواطنين، وتبعية الفكري والثقافي للسياسي المدعوم والمحصَّن أمنياً، وإقصاء النخب المثقفة والمفكرة من صياغة وصنع القرار السياسي.

على هذا الأساس، وجدنا رؤساء الدوائر، والولاة، والمديرين المركزيين، والوزراء (أغلبهم من خريجي المدرسة الوطنية للإدارة، أو من مناضلين حزبيين غير مثقفين، أو ينتمون إلى ما يدعى في الجزائر بالعائلة الثورية وحلفائها) هم الذين يتولون التخطيط والتنفيذ في آن واحد، في حين جُرّد أساتذة الجامعات المتخصصون، والإعلاميون العارفون بحيثيات الواقع الوطني، والمهنيون النوعيون مثل المهندسين والقضاة، والعلماء، من ممارسة دورهم في تأسيس رافعات الدولة الحديثة في المجتمع الجزائري.