تبدو المملكة العربيّة السعوديّة، في هذه المرحلة، "جوهرة التاج" في "سلّة الترغيب" التي تقدمها الولايات المتحدة الأميركية لإسرائيل حتى تُنجح مساعيها الرامية الى إعادة حكومتها الى سكة التسويّات، بعدما ذهبت بعيدًا بمنطق الحرب "حتى الإنتصار".

ولا تُمانع الرياض في لعب دور يُثبت محوريّتها في الشرق الأوسط الذي يبدو بأمسّ حاجة، في ظل "هتافات الحرب"، إلى " مساحات الإيجابيّة"، خصوصًا بعدما حمت نفسها ومبادئها والتزاماتها وتعهداتها ومبادراتها، بشرطين يتقاطعان مع واشنطن: السلام لغزة والدولة للفلسطينيّين!

بطبيعة الحال، إن جرى تخيير "مجانين إسرائيل" بين السلام مع المملكة العربية السعودية والإمعان في الحرب حتى آخر فلسطيني، سواء في غزة أو الضفة الغربية أو القدس، فإنّ هؤلاء يتمسكون بالخيار الثاني، ولكنّ الرياض وواشنطن لا تتوجهان إلى هؤلاء بل الى الرأي العام الإسرائيلي لينقل نفسه من ضفة "الإبادة" الى ضفة "الرفاهية"، بحيث يصبح هؤلاء الذين يهتفون ضد الحرب أكثرية وتكبر حصة الأحزاب "المسالمة" في استطلاعات الرأي الدوريّة.

وهذا التوجه الأميركي- السعودي المشترك لا يعرف عدوّه في إسرائيل فحسب بل يعرفه في الشرق الأوسط أيضًا، فالجمهوريّة الإسلامية في إيران تتقاطع بأهدافها مع "مجانين إسرائيل"، وفي حين يعير "مجانين إسرائيل" أهميّة كبيرة للتفوّق العسكري لجيشهم، تستفيد "الجمهورية الإسلامية" من استثمارها الكبير في "جبهة المقاومة"، بحيث يسقط مقابل بعض "الخسائر الإيرانية" عشرات الآلاف من الفلسطينيّين واللبنانيّين والسوريّين والعراقيين واليمنيين وغيرهم ممّن يتم الإتجار بهم في المنتديات العالميّة.

وتسعى الولايات المتحدة الأميركية بالإشتراك مع المملكة العربية السعودية الى أن تحقق للفلسطينيّين بالسلام ما ثبت بأنّ إيران تعجز عنه بالحرب: الدولة الفلسطينية!

وبذلك، يُعطى الفلسطينيّون خيارًا آخر غير خيار الحرب من أجل التوصل الى حلمهم الذي طالما بدا مستحيلًا!

ولا تجد واشنطن والرياض مفرًّا من هذه المحاولة التي تبدو لكثيرين بأنّها "مغامرة طموحة جدًا"، على اعتبار أنّ منطقة الشرق الأوسط، وفي حال تُركت لمنطق الحرب "حتى الإنتصار" في تل أبيب و"حتى الإزالة" في طهران، ستصبح جحيمًا أبديًّا يحكمه المتطرفون من كل حدب وصوب!

إنّ فتح الأفق أمام السلام المبني على الحقوق يمكنه وحده أن يُعيد الإعتبار الى الإعتدال في الشرق الأوسط!

وتدرك واشنطن والرياض أنّ "حرب طوفان الأقصى"، وإن كانت قد بنت مشروعيّتها على المظلومية الفلسطينية، إلّا أنها لم تهدف الى رفع هذه المظلوميّة على الإطلاق، إنّما إلى نسف المسار السلمي الشامل الذي كانت "إتفاقيات إبراهام" تشق طريقه.

وتعرف هاتان العاصمتان أنّ رحلتهما شائكة جدًا، ف"حوثيّو" اليمن، وفي تحدٍّ مفاجئ للإجراءات الأميركية في البحر الأحمر، هدّدوا بتوسيع نشاطاتهم الحربية نحو البحر الأبيض المتوسط، في وقت تمّ فيه إيقاظ "المقاومة الإسلامية في البحرين" من ثباتها العميق، وجرى إقحامها في "حرب المساندة"، ببيان صدر أول من أمس للحديث عن قصف كان قد استهدف إيلات قبل أسبوع من إعلانه!

وقد تزامن كل ذلك مع ثبوت هذا المسار السلمي من الجولة الأخيرة لوزير الخارجية أنتوني بلينكن، وهي شملت تل أبيب والرياض، خصوصًا مع إشارات داعمة صدرت عن دولة الإمارات العربية التي استقبلت، فجأة، "الأكثر اعتدالًا" في الكيان العبري، يائير لابيد زعيم المعارضة الشرسة ضد "مجانين إسرائيل" الذين أدخلهم هوس بنيامين نتنياهو بالسلطة الى الحكومة.

ولم تغب دولة قطر عن لعب دور داعم، بممارسة ضغوط كبيرة على قيادة "حماس" وصلت الى حد التلويح بطردها من الدوحة، من أجل الموافقة على "خارطة الطريق" التي وضعتها مع الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا ومصر، توصلًا إلى هدنة طويلة يمكن تحويلها الى وقف نهائي لإطلاق النار في غزة.

إنّ ما تسعى إليه دول الإعتدال العربي بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأميركية يختلف جذريًّا عما تهدف إليه إيران. ففي حين تعمل إيران على فرض نهجها الحربي على الشرق الأوسط، تسعى هذه الدول إلى التصدي لذلك، بكل ما أوتيت من قدرات.

وإحباط المسعى الإيراني لا يكون، بطبيعة الحال، من خلال مناصرة "مجانين إسرائيل"، بل بضرب الإثنين معًا، بموجب إيجاد مشروع بديل!

رحلة إخراج الشرق الأوسط من قبضة المجانين ليست سهلة ولا بسيطة، ولكنّها ضرورة لا بد منها، لأنّه متى أقفلت آفاق الأمل بالغد فسوف تتحكم معادلة الحرب بالجميع، فلا يبقى في الشرق الأوسط حجر فوق حجر وتتحوّل أحلام الحياة الى كوابيس موت، وتصبح مشاريع النهوض أثَرًا بعد عين!