العلاقات اللّيبية ndash; التونسية
وئام صاخب...و خلافات صامتة

إسماعيل دبارة من تونس: quot; الحقيقة أني كنت ألح عليه منذ زمن، وأقول له أرجوك لا تتراجع لأن هذه معركة، هذا يعني تكليفاً من الشعب وليس تشريفاً. هذه معركة، أنت قدت، أنت صنعت التحول في الـ 7 من نوفمبر، هذه معركة بدأتها تبقى فيها إلى آخر قطرة من دمك quot;. هذه عبارات أطلقها الزعيم الليبي معمّر القذافي أثناء زيارته التي أداها إلى تونس من الثالث إلى الخامس من آب / أغسطس الجاري أياماً قليلة بعد الإعلان رسميا عن ترشيح الرئيس بن علي لولاية رئاسية خامسة. هل تختزل عباراته تلك حقيقة العلاقة مع تونس و شعبها و رئيسها ؟ أم أن الاستهلاك الإعلامي يقتضي مثل هذه quot;المجاملاتquot; و quot;المناشداتquot; و ما خفي في طيّات العلاقة العريقة أعظم.

القذافي يقول إنه شخصيا سعيد بإعلان ترشّح بن علي للرئاسة و اقرّ في ذات الوقت بأن quot;الليبيّن كلهم سعداء بسماعهم بأن الرئيس التونسي سيترشح لولاية أخرى.quot; و لأن العقيد القذافي متعوّد على الحديث باسم شعبه خصوصا في ما يهمّ علاقات ليبيا الخارجية ،دون أدنى اعتبار للأصوات الداعية من الداخل أحيانا و من الخارج غالبا إلى قليل من التشاور و المشاركة ، فإن الطرف التونسي ينظر باهتمام مبالغ فيه و بحرص أكبر على طريقة التعاطي مع هذا الجار المثير و الهام في آن.

جار مثير حسب المتابعين نظرا لعلاقاته الخارجية المتقلّبة و التي تخضع في مجملها إلى مزاج العقيد، و هامّ لأن الطبيعة المعقّدة للنظام السياسي الليبي في حدّ ذاته تفرض نوعا من الانتباه الشديد و الرّصد المتواصل. ما بات يعرف بـ quot;أحداث قفصة quot; وهي المواجهات التي شهدتها المحافظة الجنوبية الغنية بالمعادن و الثروات الطبيعة بين 26 كانون الثاني ( يناير) و3 شباط (فبراير) من العام 1980 بين مجموعة من المعارضين التونسيين المحسوبين على التيار القومي وقوات الأمن والجيش التونسيين بمساعدة و إيعاز ليبي مبالغ فيهما و أدت إلى شرخ كبير في العلاقة بين الجارتين المغاربيّتين، قد تكون المنعرج الأخطر و النقطة السوداء الأبرز في تاريخ العلاقة بين البلدين.

أحداث لا تزال في الذاكرة التونسية، لم تتمكّن عبارات الغزل السياسي من محوها و إن لم تكن تأثيراتها طويلة المدى نظرا لفقدان القيادة الليبية لرغبتها السابقة في فرض نفوذ داخل تونس. إلا أن تلك الإحداث والتي سبقت بما بات يعرف بأزمة الجرف القارّي و نزاع الحدود، يمكن أن تبرهن بشكل كبير على قدرة البلدين على امتصاص خلافاتهما و تزويدها بكاتم صمت مازال قيد الاستعمال إلى اليوم.

عندما استولى الزعيم الليبي معمر القذافي على السلطة في انقلاب العام 1969 وعد بشكل صريح بتحرير الاقتصاد لكنّه أضمر ما يجمع عليه المتابعون اليوم quot;لا مجال للإصلاح السياسي في ظلّ حكم العقيدquot;. الأستاذ رشيد خشانة المتخصص في شؤون المغرب العربي و المتابع للشأن الليبي قال لـ quot;إيلاف: إن ما يربط بين تونس و ليبيا اليوم عريق و كبير، لكنه في معظمه متوجّه إلى قضايا ليست في الغالب منحازة إلى مصلحة شعوب البلدين.

أحداث كبيرة و أخرى صغيرة أثرت أحيانا في العلاقة بين البلدين و ساهمت طورا آخر في تقريب وجهات النظر، لعلّ من أبرزه التقارب الليبي الأميركي الذي أعاد الجماهريّة المتمرّدة إلى مستنقع العلاقات الدولية المتشابكة. خطوة لم تعلّق عليها تونس المجاورة بشكل مباشر ، لكنّ تصريحات عدد من المسؤولين الكبار و المتابعين تدلّ على أن العقيد فهم أخيرا أن طريقه الطويل نحو المجد و الخلود يمرّ حتما من بوابة quot;واشنطنquot;.

المشروع النّافذ الذي نظّر له الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي حسب رشيد خشانة كان نقطة خلاف كبيرة بين البلدين وإن لم يطفو ذلك الخلاف إلى السطح لا إعلاميا و لا سياسيا و بدا اختلافا عاديا للغاية لم يُفسد الودّ الكبير الذي يُميّز علاقة الزعيمين بن علي و القذافي. ويقول:quot;لئن اندفعت تونس بكل جوارحها مع مبادرة ساركوزي باحثة عن المكاسب القصوى منه ، فإن الجماهريّة الليبية ركنت إلى مقاطعة quot;الاتحاد من اجل المتوسّط quot; لأسباب يختزلها الليبيون في ضرورة بناء علاقات صحية و متوازنة و نديّة مع أوروبا، تنطلق من احترام السيادات الوطنية لدول الضفة الجنوبية، أمنيا واقتصاديا وثقافيا.

بالإضافة إلى الانضمام إلى تكتلات دولية تخدم قضايا السلام والتعاون المتكافئ، وليس من أجل خدمة مشاريع السيطرة داعين في المقابل إلى عدم تهميش الاتحاد المغاربي، بل و تفعيله عسى أن يصبح فعليا تكتّلا قائم الذات ، في حين يستبعد مشروع ساركوزي المتوسطي اتحاد المغرب العربي كوحدة وهو الأمر الذي يراه الليبيون في حاجة إلى توضيح.quot; ضرورة الالتزام بميثاق الاتحاد الإفريقي ومؤسساته عند التفاوض مع أوروبا أو أميركا، أو مع أي طرف آخر في العالم بحسب خشانة مبادئ يرغب العقيد القذافي ترسيخها في السلوكات السياسية للزعماء الأفارقة.

ملفّات مكافحة الإرهاب و الهجرة السرية و المخدرات لطالما كانت محلّ وفاق بين البلدين ، و يرى خشانة أن البلدين تماهيا في الارتكاز على المعالجة القضائية والأمنويّة مع تغاض واضح عن المعالجات السياسية والثقافية و الاجتماعية التي تعتمد على توسيع هامش الحريات و احترام المؤسسات و إطلاق الحريات العامة و الخاصة.

و على الرغم من التنسيق البيني الكبير و الناجع أحيانا بين كل من تونس و ليبيا في هذا المجال إلا أن هذا التنسيق كان سببا في عدّة مناسبات في عدم احترام حقوق الإنسان و الاعتداء على الحريات و الحرمات في البلدين و ذلك بشهادة عدد من تقارير حقوق الإنسان المحلية و الدولية. عدد من الإعلاميين و المتابعين لسير العلاقات بين البلدين اعتبروا الفترة الحالية في تاريخ العلاقة quot;نموذجيةquot;، و زيارة القذافي الأخيرة إلى تونس أثبتت بشكل قاطع نقاء الأجواء بين الجارتين.

و اعتبروا التوافق على عدد من القضايا المصيرية الكبرى بين البلدين و تقييم مستوى التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري والتقدم في إنجاز المشاريع الكبرى المشتركة. هذا بالإضافة إلى اهتمام القائد الليبي والرئيس التونسي بمسيرة الاتحاد المغاربي والسبل الكفيلة بتفعيل مؤسساته كانت من أبرز ما طبع الزيارة الأخيرة التي أداها القذافي إلى تونس.

فتونس وليبيا جارتان على نفس الطريق تقريبا في مجالي التنمية الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية ، و بالإضافة إلى علاقات الجوار والأخوة، تربطهما المصلحة المشتركة والمصير الواحد، والإرادة من أجل دفع العمل لصالح شعبين يربطهما الكثير ثقافيا و تاريخيا و اقتصاديا. العلاقات المميزة بين ليبيا و تونس ترجمت عمليا بالزيارات المتتالية لمسؤولي البلدين و ما تبعهما من نتائج إيجابية مثمرة خصوصا على المستوى الاقتصادي مختزلة في اتفاقيات التعاون المشترك.

والجماهريّة الليبيّة هي الشريك الأول لتونس على المستوى المغاربى والعربي والخامس عالميا فيما يخص حجم المبادلات الاقتصادية إذ سجلت المبادلات التجارية تطورا هاما سنة 2007 تجاوز المليارى دولار مقابل 1790 مليون دينار سنة 2006 و1274 مليون دينار سنة 2005 وعمليا يعبُر سنويا إلى تونس نصف مليون ليبي ، في حين يزور مليون تونسي ليبيا كلّ سنة.

هذا الوضع الجيد والإيجابي في مجال التعاون الاقتصادي والتجاري دعمته ما اصطلح بتسميته في الإعلام الرسمي للبلدين quot;الإرادة المشتركة للزعيمين القذافي و بن علي لانجاز المزيد من المشاريع، وضخ المزيد من الاستثمارات في شتى المجالات quot;. وإلى جانب ملفات المشاريع الكبرى هناك ملفات أخرى تبدو هامة للغاية و هي تلك المتصلة بالرؤية المشتركة ووجهات النظر الموحدة حول ملفات تهم الأوضاع الإقليمية والدولية.. فبين تونس وليبيا قواسم ورؤى مشتركة حول ملفات الوضعين الإفريقي و المغاربى وحول ملفات مثيرة للجدل كالهجرة غير الشرعية ومكافحة المخدرات و تنامي المدّ السلفي التكفيري في شمال إفريقيا و ملفات أخرى تتعلق بالأوضاع العربية وتحديدا ما يجرى بخصوص الصراع العربي الفلسطيني.

كل تلك المؤشرات تدلّ على أن العلاقة بين تونس و ليبيا تمرّ علنيّا بعصرها الذهبي هذه الأيام وهي مرشّحة لمزيد من التطوّر و الارتقاء، ما دام المسؤولون من الجانبين متّفقون على إخماد صوت الخلافات في كلّ مرة و الاصداع بالوئام و التفاهم.