لا أحد ينكر متعة اللحظة، وحضور الروح والجسد في الزمان الحالي والمكان الحالي، وابتعاد الإنسان عن الأمور المستقبلية، أو العيش في الزمن الماضي، جميعها يمكن أن تجعل الإنسان أكثر سعادة، وأكثر استمتاعا باللحظات، فالاستمتاع باللحظات أيا كانت الظروف كفيل بجعل الحياة أكثر تفاؤلا وأكثر فاعلية، إذ إن انتقال الروح إلى الحياة المستقبلية والتفكير دائما في القادم يفقد اللحظة الراهنة متعة الحياة.

وباعتقادي أن الانتظار من أكثر الأشياء فتكا باللحظة، ومن أكثر الأشياء قتلا لمتعة الحياة، ولو حاولت تكوين تعريف مبسط للانتظار لقلت أن الانتظار هو quot; محاولة تخطي الزمن الحالي ذهنيا دون الاستفادة منه وترقب زمنا آخر ربما يحوي في طياته الغاية المنشودة quot;.

ولو تمعنا قليلا في حياتنا لوجدنا أن معظم الفترات الزمنية التي تمر بنا هي عبارة عن مجموعة من الانتظارات العابرة والعديمة الفائدة، فجل أوقاتنا التي نقضيها نادرا ما نكون نحن بأرواحنا وأجسادنا حاضرين فيها، فإما أن نكون في انتظار شيئا ما، أو قد نفكر في صياغة هدف معين، الأمر الذي يجعلنا ننتظر تحقيقه.

فنحن من دون أن نعلم نقتل أوقاتنا بجعل حياتنا فترة انتظار مطولة نعيش فيها أجسادا بلا أرواح، وإن لم يكن هناك ما يستحق الانتظار، إما لبعد تحققه أو لتعذر الحصول عليه.

ولأهمية الموضوع سأقول أن بعض علماء النفس أكدوا أهمية توافق الروح والجسد في مكان وزمان معا، وإلا سيؤدي ذلك إلى خلل في حياة الإنسان، ولعل الحب والحزن والكآبة جميعها عواطف تبتعد فيها الروح عن الجسد وبالتالي سيكون هناك تراكمات غير سوية.

لكن المؤسف حقا هو تكريسنا لثقافة الانتظار وغرسها في نفوسنا وفي نفوس النشء، فهناك حتما ستقول الأم لطفلها : عندما تكبر سوف تقر عيني بك،عندها الطفل سينتظر متى سيكبر ويسعد أمه، والأب لايفتأ يقول لابنه عندما تكبر سوف تصبح مهندسا أو طيارا...، وكلما طلب الابن شيئا لايسمح سنه بالحصول عليه يردد الأبوان قولهما : عندما تكبر...، وحتى المعلم يقمع الطفل بقوله : تكبر وتعرف!، عندها سيرسخ في ذهن الطفل حلم الكبر والنمو، وربما سيصاب بالإحباط إذا ما كبر وأدرك أن مبتغاه كان تافها ولايستحق كل ذلك التأخير، وحتى الأبوان اللذان كرسا لمفهوم الانتظار لدى ابنهما، لم يكنا بمنأى عن فخ الانتظار فهما بدورهما ينتظران متى يكبر ابنهما ويسعدان برؤيته شابا يافعا ناجحا، متناسين الاستمتاع باللحظات السعيدة.

وربما كرست ظروف الحياة أيضا لثقافة الانتظار، فالشاب ربما يعيش زخما مليء بقوائم الانتظار، فإن كان طالبا فبمجرد بدء الدراسة حتى يبدأ في انتظار العطلة، وإن كان جامعيا فهو ينتظر التخرج، وسوف ينتظر الوظيفة، وسوف ينتظر quot; الويك إند quot;، وإن كان موظفا فالوضع أكثر سوءا، فهو حتما سينتظر سداد الديون والتخلص من القروض، وينتظر الزواج، وينتظر امتلاك منزل...إلخ، والطريف أنه وحتى في نهاية حياته لايمل الانتظار فهو ينتظر التقاعد حتى يرتاح.

البعض هنا يعتقد أنني أدعو إلى حياة كحياة البهائم وترك المستقبل، فهو سيأتي بخيره وشره، فأنا قطعا لن أدعو لذلك، ولكن أرفض أن يهيمن المستقبل على الحاضر ويخطف الانتظار جمال اللحظة. ولو انتقلنا لشأننا السعودي لوجدنا أن الانتظار متلازمة سعودية، وشريعة محلية كتب علينا اتباعها، فالمجتمع كله يقبع في زمن الانتظار، فما سبق أعده مقدمة لما سأذكر، فبين جميع الجمل التي يتداولها السعوديون من مختلف الفئات ستجد أن جملة quot; مسألة وقت quot; تعتبر أكثر الجمل استخداما وشيوعا بين مختلف الجمل، فعلى الصعيد التشريعي المشاركة السياسية لم يعتد المجتمع عليها فهي مسألة وقت، وقيادة المرأة شيء لم يعهده المجتمع من قبل فهو مسألة وقت، وحقوق المرأة وهويتها وحمايتها مسألة وقت.

وحتى على الصعيد الفكري، الانفتاح لم يحل بينه وبين قدومه إلا تساقط عتاة المتشددين فهو أيضا مسألة وقت. فالليبرالي ينتظر الجيل الجديد، وردم المسلمات العقيمة عبارة عن مسألة وقت، والإسلامي لم يكن مغفلا إلى هذه الدرجة، فأفول الليبرالية حقيقة ثابتة لديه، فانهيار أميركا حاضنة الليبرالية مسألة وقت وإن غدا لناظره قريب!

وعلى الصعيد التنفيذي جل المشاريع لم يبق أمامها إلا مسألة وقت، حتى وإن استغرق تنفيذها نصف عقد من الزمن، والتي لم تنفذ ربما ستعتمد في الميزانية القادمة، ألم أقل لكم أنها مسألة وقت.

ثم لماذا أنتم مستعجلون إلى هذه الدرجة، أليس بيننا من سنة وشيعة من هو في سبات الآن، لأن هنالك quot; مهدي منتظر quot; استسقوا من اسمه مبرر الانتظار.