رغم أن معظم مسيحيي المشرق متحدرون من أصول غير عربية(أقباط،آشورييون/سريان،أرمن، موارنة،..) لعبوا دوراً ريادياً ومهماً في نهضة العرب المسلمين، الثقافية والحضارية، وفي تحررهم من المستعمر العثماني ومن ثم الأوربي.لكن لم تمض سنوات على استقلال الدول العربية حتى بدأت عملية تهميش ممنهجة للمسيحيين ومحاصرة quot;المسيحية المشرقيةquot; من قبل الحكومات الوطنية، وأخذت بالتراجع والانحسار في هذه المنطقة التي ظهرت فيها ومنها انتشرت في مختلف أنحاء العالم.فقد أخفقت الحكومات الوطنية في توفير مقومات الاندماج الوطني بين مكونات المجتمع الواحد وفي ضمان شروط العيش المشترك بين الاسلام والمسيحية وبقية الديانات والثاقافات الأخرى، رغم ما يربطه معها من تاريخ مشترك.فضلاً عن أن نظرة غالبية العرب المسلمين الى الانسان المسيحي مازالت أسيرة النظرة الاسلامية التقليدية التي اساسها (القرآن والسنة والأحاديث)،والتي ترى في المسيحيين وفي غير المسلمين عموماً مجرد quot;رعاياquot; وquot;أهل ذمةquot;وquot;كفارquot;، وفي أفضل الأحوال أنهم quot;ضيوف غير مرحب بهم في الدول الاسلاميةquot;وليسوا بمواطينين.هذه البيئة (الثقافية والاجتماعية والسياسية)الاسلامية، التي تنبذ الآخر وترفضه وتقلل من شأنه وتنتقص من قيمته وحقوقه،هي المسؤولة عن تنامي الاتجاهات الاسلامية المتشددة والارهابية،مثل القاعدة وغيرها، التي تستهدف الأقليات المسيحية في أكثر من دولة مشرقية(العراق، مصر، تركيا، لبنان،فلسطين،وغيرها..)وتعمل على افراغ المنطقة من المسيحيين.

تحت ضغط هذه الأوضاع والمخاطر المحدقة بمسيحيي المشرق،واستجابة لدعوات الأساقفة الكاثوليك في دول المشرق،انعقد في العاشر من تشرين الأول الجاري (سينودس) بحضور بابا الفاتيكان بنديكت السادس عشر وأكثر من 180 أسقفاً يمثلون مختلف الكنائس المشرقية.سيناقش المشاركون في هذا السينودس على مدى أسبوعين المشاكل والتحديات التي تواجه مسيحيي المشرق والبحث عن سبل تعزيز وجودهم والحد من هجرتهم من أوطانهم الأم،وكيفية تشجيع الوئام بين المسيحيين والمسلمين في منطقة الشرق الأوسط،حيث يعيش نحو 20 مليون مسيحي وسط نحو نصف مليار مسلم. (تشير التوقعات إلى أن تعداد المسيحيين سينخفض إلى /6/ ملايين عام 2025).وهذا يعني بأن المشرق سيخلو من سكانه الأصليين، نهاية القرن الحالي أو بدايات القرن القادم على ابعد تقدير،اذا ما بقيت أوضاع المنطقة على ما هي عليه من حالة عدم استقرار سياسي وأمني وفقر وبطالة وتخلف.هذا اللقاء المسيحي الكبير في حاضرة الفاتيكان،الذي دق quot;ناقوس الخطرquot; على مصير ومستقبل المسيحية المشرقية، يؤكد على أن قضيةquot; مسيحيي الشرقquot; هي مشكلة (دينية ثقافية اجتماعية) بالدرجة الأولى،قبل أن تكون سياسية.بمعنى أنها ترتبط بالموروث التاريخي ( الثقافي والديني والاجتماعي) المتخلف لشعوب المنطقة،أكثر من ارتباطها بطبيعة الحكم والأنظمة السياسية القائمة.من المنظور ذاته أرى، لو أن quot;اسرائيلquot; دولة اسلامية، ما كان للنزاع العربي الاسرائيلي،الذي أثر سلباً على الوجود المسيحي المشرقي،أن يدوم ويستمر كل هذه العقود والسنين حول quot;المشكلة الفلسطينيةquot;، وما كانت اندلعت كل هذه الحروب بين العرب والاسرائليين، وما كان لهذا النزاع على quot;الأرض والحدودquot; أن يتحول الى quot;صراع وجودquot;،المفهوم الذي أطلقه الرئيس (جمال عبد الناصر) وتبنته معظم التيارات العربية الاسلامية(القومية والدينية).ألا يعزز وجهة النظر هذه، رفض المصريين، وهم بغالبيتهم من المسلمين، التطبيع مع quot;دولة اسرائيلquot; رغم ابرام مصر لاتفاقية سلام وصلح مع دولة اسرائيل التي يرفف علمها في سماء القاهرة.بتعبير آخر،لو أن quot;اسرائيلquot; دولة اسلامية لتصالح العرب المسلمين مع الاسرائليين المسلمين ولانتهى الصراع العربي الاسرائيلي منذ أمد طويل.اذ كان سيتخلى العرب عن quot;أرض فلسطينquot; مثلما تخلوا عن quot;عربستانquot; لايران المسلمة وعن quot;لواء اسكندرونquot; لتركيا المسلمة،من منطلق أن quot;الاسلامquot; لا يعترف بالاختلافات القومية أو العرقية بين الشعوب الاسلامية.في الاطار ذاته، ألم يقبل العرب المسلمين بـquot;الاحتلال العثماني المسلمquot;، الذي استعمرهم طيلة أربعة قرون باسم quot;الخلافة العثمانيةquot; ولم يتخلصوا من الاحتلال العثماني الا بفضل الجيوش الأوربية التي قوضتت الامبراطوية العثمانية وفككتها اثناء الحرب العالمية الأولى. طبعاً القول،بأن قضية quot;مسيحيي المشرقquot; هي قضية دينية في جذورها وأساسها، لا يعفي ولا يبرئ الحكومات من مسؤولية تفاقم أوضاع مواطنيها المسيحيين.وليس صحيحياً بأنها (الحكومات) غير قادرة على حماية وتحصين الأقليات المسيحية لديها في ظل انتشار المجموعات الارهابية وتنامي الاصولية الاسلامية المتشددة.اذ نرى هذا النظام أو ذاك كيف يتحرك ويستنفر بكل قوته وترسانته العسكرية وأجهزته البوليسية عندما يتعرض أمنه للخطر أو عندما يحصل اعتداء على أحد عناصره أو أجهزته الأمنية من قبل جهة ما، اسلامية كانت أو غير اسلامية.

يتأمل المشاركون في هذا السينودس أن يتحرك (بابا الفاتيكان)،الرئيس الأعلى للكنيسة الكاثوليكية في العالم وبما له من ثقل ووزن معنوي وديني كبيرين على الساحة الدولية، لتفعيل القرارات والتوصيات الخاصة بقضية مسيحيي المشرق والتي ستصدر عن هذا الملتقى المسيحي في ختام جلساته.كذلك حث المجتمع الدولي على القيام بواجباته ومسؤولياته الأخلاقية والانسانية تجاه الأقليات المسيحية في دول المشرق العربي الاسلامي، والعمل الجاد على نشر السلام وتعزيز الاستقرار في المنطقة، والاسراع في حل الأزمات التي تعصف بها،خاصة النزاع الاسرائيلي الفلسطيني والأزمة العراقية والأزمة اللبنانية.فمن شأن السلام وحل الأزمات، التخفيف من درجة الاحتقانات ومن حدة التوترات بين شعوب المنطقة،وهذا كله من دون شك سينعكس ايجابياً وبشكل كبير على وضع الأقليات المسيحية وعلى جميع الأقوام والفئات المستضعفة الأخرى.ربما،ليس بمقدور هذا الملتقى الديني فعل الكثير لأجل مسيحيي المشرق،خاصة وان القرارات و التوصيات التي ستصدر عنه هي غير ملزمة لأحد.لكن مجرد انعقاده هو حدث مهم، من حيث الزمان والمكان والأجندة المعلنة.وهو يحمل أكثر من رسالة وفي أكثر من اتجاه،تتمحور جميعها حول لفت أنظار جميع المعنيين، في الشرق والغرب، الى المخاطر المحدقة بالمسيحية المشرقية والتنبيه الى المضاعفات السلبية على المجتمعات العربية والاسلامية التي ستنجم اذا ما تلاشت واندثرت quot;المسيحية المشرقيةquot; من مهدها.ابرز هذه الرسائل وأهمها، هي تلك الموجهة الى المشرق العربي الاسلامي،حكام ونخب وأحزاب ومنظمات مجتمع مدني ومرجعيات دينية.فقد اراد المشاركون في هذا السينودس القول: بأنهم فقدوا الثقة أو كادوا يفقدونها ليس بالحكومات فحسب،وانما ايضاً بمختلف قوى وفعاليات المجتمعات التي يعيشونها فيها لجهة قيامها بدورها وواجباتها تجاه قضية المسيحيين المشرقيين.فهم ما كانوا ليلجؤا الى الفاتيكان لو أن دعواتهم ومطالباتهم المتكررة و الخاصة بتحسين الأوضاع القانونية والاجتماعية للمسيحيين لاقت استجابة وآذان صاغية من قبل حكوماتهم الوطنية ومن قبل شركائهم في الوطن.ومنذ الاعلان عن هذا السينودس الخاص،برزت العديد من الأصوات والأقلام العربية والاسلامية تنتقده وتشكك بنوايا وأهداف الداعين والراعين له.ينفي أصحاب هذه الأقلام والأصوات وجود قضية اسمها quot;مسيحية مشرقيةquot;.بدلاً من الاشادة بهذا السينودس المسيحي والدعوة الى تفعيل القرارات والتوصيات التي ستصدر عنه،واطلاق مبادرات عربية واسلامية لعقد مؤتمرات ولقاءات مماثلة لدراسة واقع مسيحيي المشرق.من المؤسف جداً أن تقع بعض الشخصيات والمرجعيات المسيحية المشرقية تحت الضغوط أو المجاملات لتنفي بدورها ما يعانيه مسيحيو المشرق من ظلم واضطهاد.يبدو جلياً،أن مواقف الرافضين لللاعتراف( بأن الأقليات والمجموعات المسيحية في المجتمعات العربية والاسلامية هي مضطهدة دينياً واجتماعية) مازالت أسيرة نظرية أو quot;عقدة المؤامرةquot;.فهم يتهمون، كل من يثير مسالة quot;المسيحية المشرقيةquot; بالتواطؤ مع الغرب (الأمريكي الأوربي) والصهيونية والعمل على خدمة أهدافهما، التي يصفونها بالاستعمارية والمعادية للعرب والمسلمين. ربما،ثمة مصلحة للغرب في هجرة مسيحيي المشرق ولجوئهم اليه، لما يمثلونه من عقول وأدمغة علمية وأيدي عاملة منتجة جاهزة. بالمقابل تشكل هذه الهجرة استنزاف المجتمعات المشرقية من العقول والطاقات والكفاءات التي هي بأمس الحاجة إليها،فضلاً عن أن الهجرة المسيحية تعطي انطباعاً للعالم بأن quot;الإسلامquot; لا يتقبل الآخر ولا قدرة له على العيش حتى مع الوجود المسيحي المشرقي الأصيل الذي يجمعه مع الاسلام تاريخ حضاري طويل، فكيف لهذا الاسلام أن يتعايش مع اليهود وغيرهم. وما يعزز هذا الانطباع خلو المجتمعات العربية والاسلامية من الأقليات اليهودية التي كانت تعيش فيها منذ قرون.بلا ريب،مثل هذا الانطباع يخدم الأهداف الاستراتيجية الاسرائيلية في المنطقة.لكن،حتى اذا سلمنا جدلاً بنظرية المؤامرة وبوجود مخطط امريكي صهيوني لتهجير المسيحيين من المنطقة وافراغها منهم، أليست الأدوات المنفذة لهذا المخطط هي عربية اسلامية بامتياز.بمعنى آخر،ألا تتقاطع مصالح الغرب والصهيونية مع أهداف ومصالح التيارات الاسلامية المتشددة التي تستهدف مسيحيي المشرق لافراغه منهم.جدير بالذكر،أن الكاتبة الفرنسية(آني لورنت) كانت قد تنبأت بعد أحداث ايلول 2001quot;بأن المسيحيين في العالم الإسلامي سيكونون شهداء العقيدة المسيحية التي يؤمنون بها وضحايا العدوان الإسلاموي المتطرف عليهمquot;.

كم كان عظيماً لو أن دولة عربية أو اسلامية مشرقية دعت الى مثل هذا السينودس المسيحي واحتضنته.أو بادرت مرجعيات ومنظمات اسلامية كبيرة، مثل( منظمة المؤتمر الاسلامي) لعقد quot;سينودس اسلاميquot; لأجل بحث مستقبل المسيحية المشرقية وسبل تثبيت وتعزيز الوجود المسيحي في العالم العربي والاسلامي.اعتقد بأن قضية بحجم وأهمية وحساسية قضية quot;مسيحيي المشرقquot; تستحق أكثر من quot;قمة عربية اسلامية شرق أوسطيةquot;. فمثل هذه القمة أو القمم سيكون لها وقع ايجابي معنوي كبير على نفوس معظم المسيحيين المشرقيين.كما ستؤكد هذه القمة بمجرد انعقادها على وجود quot;رغبة اسلاميةquot; حقيقة ببقاء المسيحيين المشرقيين في أوطانهم الأم يعيشون الى جانب شركائهم المسلمين بكامل الحقوق والوجبات،فضلاً عن أن قمة عربية اسلامية لأجل مسيحيي المشرق من شأنها أن تغيير الكثير من المفاهيم الاسلامية القديمة والخاطئة السائدة اليوم حول المسيحية المشرقية وأتباعها.تلك المفاهيم التي مازالت تؤثر سلباً على العلاقة بين المسيحيين والمسلمين.لكن للأسف يبدو أن معظم الحكومات العربية والاسلامية قد تخلت عن هذا المكون المشرقي الأصيل، أو على الأقل هي باتت غير مكترثة بوجود المسيحيين وبمصيرهم المهدد بالتلاشي.قطعاً،لا ننفي وجود قطاعات اسلامية مهمة بينهم علماء ورجال دين، وكذلك قوى وتيارات اسلامية كثيرة، حريصة على بقاء المسيحيين المشرقيين في أوطانهم الأم معززين مكرمين وحريصة على تمتعهم بكامل حقوقهم وحرياتهم الدينية،مثلهم مثل المسلمين.وقد شاركت بعض هذه التيارات والمنظمات الاسلامية عبر ممثلين لها بفعالية في السينودس المنعقد حالياً في الفاتيكان،مثل(الدكتور محمد السماك)،أمين عام اللجنة الوطنية للحوار الإسلامي المسيحي، ومستشار مفتي الطائفة السنية في لبنان. وقد ألقى الدكتور السماك كلمة مهمة وبليغة ضمن فعاليات اليوم الرابع للسينودس جاء فيها: quot;إنّني أخاف على مستقبل مسلميّ الشرق من هجرة مسيحيّيّ الشرقquot;، وأكد في كلمته على أنّ quot;المحافظة على الحضور المسيحيّ هو واجبٌ إسلاميّ عامّ بقدر ما هو واجبٌ مسيحيٌّ عام..quot;. وكان السماك قد أكد في مناسبات عديدة سابقة على quot; أن لا مستقبل للمنطقة العربية من دون العيش المشترك الاسلامي المسيحيquot;. لكن للأسف يبدو أن الغلبة،أو الكفة الراجحة، في هذه المرحلة وحتى اشعار آخر، ليست لمثل هذه التيارات الاسلامية المتنورة والمنفتحة على الآخر و التي تتطلع الى quot;دولة مواطنةquot; تحقق العدل والمساواة بين جميع أبنائها ومواطنيها دون تمييز أو تفضيل على أساس ديني أو مذهبي أو عرقي.وانما (الغلبة) هي للاتجاهات الاسلامية المتطرفة والمتشددة التي ترفض قبول الآخر.تلك المحمولة بمشاريع سياسية ودينية وأمنية من شأنها أن تزعزع، أو هي زعزعت، قيم وأسس العيش المشترك بين ديانات وشعوب المنطقة.

أخيراً: لا أجافي الحقيقة اذا قلت: بأن الشعور السائد اليوم لدى غالبية الأوساط المسيحية المشرقية،هو الاحباط واليأس من مستقبل مجهول ينتظر أولادهم وأحفادهم في هذه المنطقة التي تنام على صفيح ساخن بالتوترات والقلاقل والاضطرابات.

سوريا
باحث مهتم بقضايا الأقليات
[email protected]