هنالك قول شائع بين المثقفين يدعي أن الفلسفة ولدت من رحم الدين وأدت بدورها إلى ولادة العلم، ومن ثم تمرد العلم على الفلسفة والدين معاً مثلما تمردت الفلسفة قبله على الدين وحاولت التخلص من تبعات التنزيل الذي هو بمثابة العمود الفقري للأديان السماوية واستعاضت عنه بالمنطق العقلي لبناء نماذج بديلة للعالم من دون الحاجة إلى استبعاد أو إلغاء ما اقترحته الأديان السماوية من أصل غيبي ومصير طوباوي. فيما حاول بعض الثيولوجيين ومفكري المؤسسات الدينية المزاوجة بين النصوص المقدسة المنزلة والتنظيرات الفلسفية الوضعية في محاولة يائسة للتكيف والتأقلم مع النظريات المعاصرة عن العالم والوجود والحياة والموت. يقول القديس أوغسطين Augustin drsquo;Hippone، أحد أهم العقول الدينية في الأكليروس المسيحي التي أثرت في تأريخنا الديني، أنه عثر في أعماقه على إله ذو بعد روحاني حيث لم يستطع العلم العثور عليه أو إثبات وجوده. وهو نفس الأله الذي تحدث عنه سفر التكوين وباقي أسفار العهد القديم والمعروفة بنصوص التوراة والتي تروي أصل الزمان ومصدر الوجود المخلوق من العدم على يد الخالق الذي خلق كل الأشياء، وكان إلهاً طيباً، وهو الذي خلق الإنسان على صورته وأمره أن يسكن الأرض ويعمرها ويملأها بنسله وإخضاعها لإرادته مقابل خضوعه غير المشروط لخالقه. وكلنا يعرف انهيار هذه الصورة الرومانتيكية بسبب فعل الخطيئة الأولى وباقي الأسطورة معروف لأتباع الديانات السماوية الثلاثة بشأن طرد آدم وحواء من الجنة لأكلهما ثمرة شجرة المعرفة، ومأساة هابيل وقابيل ولدي آدم وحواء وقصة نوح والطوفان وإبراهيم والذبيحة أو القربان، وملحمة موسى وشعب الله المختار، ومعجزات عيسى المسيح حامل خطايا البشر في أناجيل العهد الجديد وأخيراً رسالة محمد المنقذ الأخير للإنسان من الظلال. تتحدث النصوص المقدسة عن البداية، والمقصود بها بداية الزمان والمكان، هذا الزمان الذي يسير باتجاه واحد مستقيم، من الماضي مروراً بالحاضر باتجاه المستقبل إلى نقطة محددة في عمر الزمن حيث ستكون معلماً لنهايته. والإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعي أنه سيموت حتماً وهو الوحيد الذي يعشش في ذاكرته ومخيلته الجمعية، على مر الزمن، خوف كبير من نهاية الزمن وإن كل لحظة تمر به تقربه من تلك النهاية المحتومة، وبالرغم من ذلك يظل يبحث عن البداية والأصل، التي تحولت إلى معضلة ينبغي الهروب منها أو تجنبها وتلافيها Lrsquo;esquive de lrsquo;origine. ومن ناحية أخرى فإن الميتافيزيقيا والعلم يعيشان حالة طلاق بائن وانفصال تام في أيامنا هذه. فمنذ عام 1826 ساهمت الفلسفة الوضعية la philosophie positiviste لأوغست كونت August Compte بشكل واسع في تنظيف الفكر وإجلاء الغشاوة عن الأنظار إزاء المساءل التي تتعلق بمبدأ الغائية la finaliteacute; والسببية أو العلية la causaliteacute;، مانعة على نحو منتظم أي تساؤل بشأن وجود كائن علوي يكون هو أصل ومصدر العالم، في حين كان الفيلسوف الشهير لايبنز Leibinz في نهاية القرن السابع عشر، يرى في العلم هدفاً مزدوجاً يتمثل بالتدبر والتأمل والانبهار والإعجاب admirer بحكمة الله الخفية وفي نفس الوقت معرفة الأشياء. والحال أن العلماء يضحون اليوم بالشطر الأول من مقولة لايبنز لصالح الشطر الثاني فقط. وباتت مهمة العلماء في أيامنا هذه، الاهتمام بكل شيء ما عدا مسألة الإلوهية فهذه من شأن الثيولوجيين والللاهوتيين والسحرة والمشعوذين، لذا يتعين على العلماء الماديين والعقلانيين التخلي عن الجوانب والمواضيع الميتافيزيقية والغيبية التي تؤرق ذهن البشر. ترتيباً على ذلك يصح القول أن النظريات العلمية في ميادين التجربة والمشاهدة تتوقف بصورة عامة على مبدأ العلية La causaliteacute; وقوانينها على نحو أساسي، وإذا أسقط هذه المبدأ من الحسابات الكونية فسوف يغدو من المتعذر صياغة نظرية علمية في أي حقل من حقول المعرفة كما يعتقد بعض الفلاسفة الإلهيين. فالمادة بنظرهم ليست سوى قناع للحقيقة المطلقة غير المرئية التي ينطوي عليها وجود العالم، ويبنون على ذلك أن الكشف العلمي لا يمكنه أن يبرهن على وجود الواقع الموضوعي المستقل عن وعينا بينما يمكنه أن يدلل في نفس الوقت على عدم لزوم الصفة المادية له. والحال أن مبدأ العلية يقول أن لكل حادث سبباً، وقانون الحتمية يقول أن كل علة أو سبب يولد النتيجة الطبيعية له بالضرورة، بمعنى أنه لا يمكن فصل النتائج عن أسبابها كما يقول مبدأ التناسب بين الأسباب والنتائج، أي أن كل مجموعة متفقة في حقيقتها ينبغي أن تتفق في العلل والآثار كما في الأسباب والنتائج. ومرد ذلك أن مبدأ العلية هو الركيزة التي تستند إليها كافة محاولات الاستدلال. وعلى الصعيد المعرفي، عندما تصطدم بعض العلوم بعقبات تعجز عن تذليلها و لا تحبذ اللجوء إلى الغيبيات والماوراءيات، فإنها تلجأ أو تتوسل بطرق ومناهج ومبادئ أخرى كالصدفة Le Hasard كما نلاحظ غالباً في علم الأحياء أو البيولوجيا La biologie الذي كثيراً ما يستنجد بالصدفة حيال الظواهر التي يرصدها ويراقبها، مما جعل البعض يعقب بالقول أن الكون لا يحتوي على الصدف بل على مستويات مختلفة من الأنظمة التي يتوجب علينا الكشف عن مراتبيتها، وإن ما ندعوه بالصدفة ليس سوى عجزنا نحن البشر عن فهم وإدراك درجة قصوى من النظام الكوني. وقد يفلت منا ويغيب عن استيعابنا سبب ما أو علة ما مهما كانت صغيرة في حين قد تكون تلك العلة هي السبب الذي يحسم ويحدد نتيجة جوهرية مهمة لم يكن بمقدورنا إدراكها أو التنبؤ بها أو استشعارها pressentir وذلك بسبب أن الكائن البشري غير قادر على معرفة كل شيء يحيط به، لذلك تراه يرمي على عاتق الصدفة مسؤولية جهله. فعلم الهندسة الوراثية، على سبيل المثال، يستشهد بالفيزياء الكمية أو الكوانتية physique quantique ليبرر وجود الصدفة في الطبيعة بالاستناد إلى مبدأ اللايقين أو اللاحتمية principe de lrsquo;incertitude. فعلماء الخلايا الحيوية biologistes moleacute;culaires يقولون إنه إذا كانت المادة مدموغة باللاحتمية indeacute;terminisme فإن البنى والتركيبات البيولوجية مدموغة بذلك أيضاً a fortiori لأنها مادية mateacute;rielles. وهكذا، ويالها من مفارقة، تنبثق مرة أخرى فكرة الفوضى chaos في قلب علم يدرس حتمية deacute;terminisme برنامج غاية في الدقة. والجدير بالذكر أن العالم الفيزيائي ويرنر هايزنبيرغ Werner Heisenberg كان أعلن سنة 1925 عن مبدأ اللايقين أو اللاحتمية وأظهر أنه في المستوى مادون الميكروسكوبي ومادون الذري، ليس بوسع العالم الفيزيائي أن يحدد في آن واحد موقع وسرعة الجسيمات الذرية كالالكترونات. فمعرفة إحدى المعطيين في لحظة ما يحكمنا بالضرورة بجهل المعطى الآخر، بعبارة أخرى يستحيل علينا أن نقيس بصورة دقيقة كمية الحركة التي يقوم بها جسيم بسيط أو أولي كالفوتون وأن نحدد ونقيس في الوقت عينه موقعه في الموجة المرتبطة به حسب الميكانيكا الموجية التي تحدث بها العالم الفرنسي لوي دي بورجلي louis de Broglie. وكلما كان قياس موضع الالكترون دقيقاً يغدو هذا الأخير عاملاً في تعديل كمية الحركة، أي تغيير في سرعة الجسيم بصورة لا يمكن التنبؤ بها، والعكس صحيح، دون أن يحدث ذلك اضطراباً غير قابل للقياس، بعبارة أخرى، لا يمكن الفصل بين الجسيم الملاحظ أو المرصود وأداة الرصد أو جهاز المراقبة الذي يؤثر فيه، كما لا يمكن فصله عن الشخص أو العالم الذي يلاحظ ويراقب ويرصد الجسيم. أي لو استخدم شخصان أو مراقبان نفس أداة الرصد لنفس الجسيم وعلى موضع واحد، فسوف يصلان إلى نتائج ومقاييس مختلفة. من هنا نشأ مبدأ اللاحتمية الذي يناقض بشكل مطلق مبدأ العلية والقواعد الأساسية والجوهرية التي سارت عليها الفيزياء الكلاسيكية أو التقليدية.
ومن خلال مبدأ اللاحتمية دمغت الفيزياء الحديثة على جبينها معرفتها المتواضعة بجهلنا أو يقيننا المتواضع عن عدم اليقين. فبالنسبة للعالم هايزنبرغ والمفكرين الوضعيين، لا يوجد واقع غير الظواهري أو الظاهراتي pheacute;nomeacute;nale والحال أن الظواهر les pheacute;nomegrave;nes لا تقبل سوى القوانين الاحتمالية probabilistes التي تنطوي على الـلاحتمية indeacute;terminisme. وبالمقابل بالنسبة للواقعيين من أمثال آينشتين Einstein فإن نظرية هايزنبرغ غير مكتملة بقدر ما هي حسابية statistique فهايزنبرغ يصر على أنه لا توجد آلية meacute;canisme تختفي أو تقف وراء علاقات اللاحتمية. وعندما سئل آينشتين لما لا يتفق مع مبدأ اللاحتمية indeacute;terminisme أجاب:quot; النكتة الجيدة لا يجب أن تكرر دوماًquot; والمعروف أن آينشتين قال أن الله لا يلعب بالنرد أو الزهر وهو يعتقد بالصرامة الجوهرية rigueur fondamentale للعلية la causaliteacute; والحتمية deacute;terminisme ويعارض من يعتقدون بمبدأ الاختيار الحر وتقرير المصير من قبل الالكترونات، وأعلن العديد من العلماء عجزهم عن إدراك مبدأ تداخل الحالات la superposition drsquo;eacute;tats الذي سنتحدث عنه باسهاب في حلقات قادمه.
يستغل بعض المنظرين الإلهيين في مختلف الأديان السماوية هذه المبادئ والفرضيات التي يحتويها العالم الغريب للفيزياء الكمية أو الكوانتية physique quantique والتي يستحيل إدراكها بالحواس البشرية الستة لتعزيز رؤاهم الغيبية أو ما وراء المادية خاصة مبدأ تداخل الحالات، المقصور حالياً على مستوى اللامتناهي في الصغر ويعتقدون أن هناك ما يقابله في مستوى اللامتناهي في الكبر. لقد حاول العلماء على مر العصور وعبر قرون عديدة، تقليص الهوة بين ما نعرفه وما ندركه بحواسنا، بين فهمنا وتقبلنا للعالم الممتد من اللامتناهي في الصغر infiniment petit وما دونه واللامتناهي في الكبر infiniment grand وما يتعداه، وما ينكشف أمام أنظارنا ومسامعنا وما يخفي عليها. فالأرض تبدو للإنسان الذي يعيش فوقها مسطحة وساكنة غير متحركة نظرا للفرق الكبير بين حجم الإنسان وحجم الأرض لكنها تظهر كروية متحركة تدور حول نفسها وحول الشمس عندما ينظر إليها الإنسان من خارج مدار الكرة الأرضية كما تظهر انعكاسات وتبعات وتأثيرات غريبة كلما اقتربنا من سرعة الضوء، الى درجه ان الجسم المادي يختفي كليا عندما تبلغ سرعته سرعه الضوء، لذلك فإن أغلب النماذج الفيزيائية تمتلك سلسلة من الخواص تفصل بين رؤيتين أو كونين أحدهما مألوف لدينا والآخر يخضع لقوانين تتنافى مع حدسنا أو مداركنا. وهناك إدراك بشري على مستوى ماكروسكوبي macroscopique ومعلومة علمية يصعب، إن لم نقل يستحيل، إدراكها من قبل الإنسان العادي على المستوى الميكروسكوبي microscopique والمقصود بهذا الأخير عالم الذرة ومكوناتها من الالكترونات eacute;lectrons وفوتونات photons وكواركات Quarks وربما جسيمات أو جزيئات أصغر من ذلك بكثير لم تستطع أجهزة القياس التي نمتلكها حالياً اكتشافها حيث تنتشر فرضيات خيالية فنتازية تتحدث عن أكوان بأكملها توجد على مستوى ما دون الذري مثلما يشاع عن وجود أكوان لا متناهية في عددها ولا يمكن للبشر إحصائها وما كوننا المرئي، بما يحتويه من مئات المليارات من الحشود والسدوم المجريه والغازات الكونيه ومئات المليارات من المجرات وما تحتويه من مئات المليارات من النجوم والكوكب التي تفصل بينها ملايين المليارات المليارات من السنين الضوئيه، سوى جسيم في ذرة كوزمولوجية في جسد كون مطلق لامتناهي الأبعاد ليس له بداية ولا نهاية، عاقل وحي ودائم الخلق والتطور، كما أشارت إلى ذلك نصوص ووثائق تعود لحضارات فضائية متقدمة ومتطورة تتقدم علينا بعشرات الملايين من السنين، استطاعت السيطرة على مختلف أنواع الطاقة والمادة الكونيتين، سواء المرئية والملموسة منها أو الخفية واللامرئية، وبمقدورها التنقل بين المجرات في كوننا المرئي بلمح البصر. فهناك عدد لامتناهي من المكونات الجوهرية المنتشرة في ثنايا الكون المطلق لا تخطر على بال بشر حتى بعد مليارات السنين ومهما تقدم الإنسان في العلم والتكنولوجيا ووصل بعلمه إلى مصاف الآلهة.

يتبع

الحلقة الثانية

[email protected]