يقع الإنسان أحياناً في متشابهات لا يرقى إلى جمع وجوهها المتفرقة أو الوصول بها إلى النتائج السليمة التي يبتعد من خلالها عن التأويل الدخيل مما يجعله يحلل الأمور بطريقة غير واقعية قد تكون سبباً في جعل الفهم البديهي لديه ينحى باتجاه المنهج المعاكس للحقائق التي كتب لها الخفاء وهي إلى الظهور أقرب، وهذا السلوك بحد ذاته قد يعطي الطرف الآخر المخالف للعقيدة بعض الأدلة التي لا يمكن الرد عليها من قبل أصحاب الحق الذين أصبحوا في لبس من أمرهم، وهذا ما يجعلهم في وضع لا يحسدون عليه إذا ما أرادوا تبيان ما خفي على الغالبية العظمى من الناس بما في ذلك العلماء أنفسهم.

من بعد هذه المقدمة نستطيع القول إن معارف القرآن الكريم التي نزلت بلسان عربي مبين لا يمكن أن تكون هي نفسها التي أشار تعالى إلى وجودها في اللوح المحفوظ والتي لا يمكن كشف تفاصيلها أو الاحاطة بها إلا من قبل النبي quot;صلى الله عليه وسلمquot; والخاصة من المقربين، فإن قيل: إذن ما فائدة وجود تلك المعارف دون الاحاطة بها من قبل العامة؟ أقول: الضعف في القابل وليس في الفاعل، ولهذا فصلت هذه المعارف بواسطة التدريج الذي وصل للناس عن طريق التنزيل، وقد بين الله تعالى هذه الحقائق بقوله: (بل هو قرآن مجيد***في لوح محفوظ) البروج 21-22. وكذا قوله: (فلا أقسم بمواقع النجوم***وإنه لقسم لو تعلمون عظيم***إنه لقرآن كريم***في كتاب مكنون) الواقعة 75-78. وبهذا تظهر النكتة في قوله تعالى: (إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون***وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم) الزخرف 3-4. أي أن الأصل هو الممتنع دون الإنزال الذي وصفه تعالى بقوله quot;قرآناً عربياًquot; وهذا ما بينته الآية في ترتيبها.

وبناءً على هذا يمكن التوصل إلى معرفة ما خفي على البعض من تفسير قوله تعالى: (لا يمسه إلا المطهرون) الواقعة 79. أي في مرحلة وجوده في اللوح المحفوظ، أما عند التنزيل الذي كشف الله تعالى من خلاله ما خفي على الآخرين فقد بينه بقوله: (تنزيل من رب العالمين) الواقعة 80. وإلى هنا يمكن أن ترفع الأعذار في عدم فهم الكتاب أو الميل عنه، ولذا أنزل النتيجة بطريقة أقرب إلى التوبيخ المصحوب بالوعيد، وذلك في قوله: (أفبهذا الحديث أنتم مدهنون***وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون) الواقعة 81-82. ومن خلال ما مر يمكن أن نتوصل إلى أن النبي quot;صلى الله عليه وسلمquot; كان يعلم الكثير من المعارف القرآنية قبل نزولها وذلك بتعليم من الله تعالى، مما أدى به إلى أن يعجل بايصال تلك المعارف إلى الأمة إرشاداً دفعياً لا تجزيئياً، وهذا ما أشار له تعالى بقوله: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه) طه 114. وكذا قوله: (لا تحرك به لسانك لتعجل به) القيامة 16.

من هنا نعلم أن العلم الاجمالي لمعارف القرآن الكريم كان في متناول يد النبي quot;صلى الله عليه وسلمquot; إلا أنه امتنع عن الايصال الكلي لتلك العلوم والأحكام بأمر من الله تعالى، لئلا يحدث الريب والشك في إلقاء التعاليم على شكلها المجمل باعتبار أن الافهام لم تتوصل بعد إلى اكتشاف المسلمات اللاحقة قبيل التدريج في تفاصيلها التي يتعذر الأخذ بها دفعة واحدة، وهذا بطبيعة الحال لا يمكن للإنسان أن يطلع عليه لأنه من علم الغيب الذي استأثر به الله تعالى. وبهذه النتيجة نكون قد توصلنا إلى أن الله تعالى قد وعد نبيه الكريم من أن هذه المعارف والأحكام التي تعلمها سوف نرسلها لك على شكل قرآن يقرأ وكتاب يكتب، وهذا ما بينه بقوله: (ذلك الكتاب لا ريب فيه هدًى للمتقين) البقرة 2. فكأن الله سبحانه قد أنزل الوعد من القوة إلى الفعل. فإن قيل: كيف وُصف القرآن بالكتاب قبل إتمام تنزيله؟ أقول: لفظ الكتاب قد يطلق على الجزء وعلى الكل، وبعبارة أخرى كل ما يكتب يسمى كتاباً، وهذا ما بينه تعالى بقوله: (إنا سمعنا كتاباً أنزل من بعد موسى) الأحقاف 30. والجن لم يسمعوا إلا بعضاً منه. وقد يسمى بعض القرآن قرآناً كما في قوله تعالى: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) القيامة 18. وكذا قوله: (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون) الأعراف 204. وبناءً على ما تقدم يمكن أن نقول إن هذا هو الاحتمال الأول الذي يبين علة الإشارة إلى الكتاب بـ quot;ذلكquot; ويؤيَد هذا الاحتمال بقوله تعالى: (إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً) المزمل 5.

أما الاحتمال الثاني: فإن قوله تعالى quot;ذلك الكتابquot; لا يراد منه الكتاب الذي في اللوح وإنما الإشارة إلى الحروف المقطعة، أي لما فرغ تعالى من قوله: (الم) البقرة 1. قال quot;ذلك الكتابquot; وهذا يعني أن ذلك هو الكتاب المؤلف من هذه الحروف، لأنها أصبحت في حكم المتباعد عند الفراغ من ذكرها، وهذا كثير في القرآن الكريم، كقوله تعالى: (لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك) البقرة 68. أي عوان بين الفارض والبكر، وكذا في قوله: (ذلك عيسى ابن مريم قول الحق الذي فيه يمترون) مريم 34. وذلك بعد الفراغ من بيان أمره. وقوله تعالى: (قل أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين وتجعلون له أنداداً... ثم قال... ذلك رب العالمين) فصلت 9.

تفصيل الكلمات:

ذلك: اسم إشارة والصواب أن الإشارة تكون في quot;ذاquot; فإذا قرب الشيء قيل quot;هذاquot; أما دخول الكاف فالإشارة فيه للبعيد عرفاً لا وضعاً، أما سبب هذا الاستعمال فهو لثقل الكاف عند المبالغة في الإشارة إلى الأشياء التي أصبحت في حكم البعيد، والدليل على ذلك استعمال quot;ذلكماquot; لمخاطبة المثنى، كما في قوله تعالى: (ذلكما مما علمني ربي) يوسف 37. وتدخل الميم على quot;ذلكquot; في خطاب الجماعة، كما في قوله: (قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم... إلى أن قال... ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون) الأنعام 151. وهذا كثير في القرآن الكريم، ويمكن بيان ذلك في إضافة الكسرة إلى الكاف عند مخاطبة المؤنث، كما في قوله تعالى: ( قالت أنى يكون لي غلام ولم يمسسني بشر ولم أك بغياً) مريم 20. ثم قال: (قال كذلكِ قال ربك هو علي هين) مريم 21. أما في المفرد المذكر فقد جاء بالكاف مفتوحة، كما في قوله: (قال رب أنى يكون لي غلام وكانت امرأتي عاقراً وقد بلغت من الكبر عتياً) مريم 8. ثم قال: (قال كذلكَ قال ربك هو علي هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئاً) مريم 9.

الكتاب: الأصل فيه الجمع، فكأن الكاتب يجمع الحروف والكلمات، ولذا سميت الكتيبة بهذا الاسم وذلك لتجمع أفرادها، وهو فعال بمعنى المفعول، أي كتاب بمعنى المكتوب، كما في قول الشاعر:

بشرت عيالي إذ رأيت صحيفة......أتتك من الحجاج يتلى كتابها

الريب: يعني المبالغة في الشك المصحوب بسوء الظن.
الهدى: الدلالة الموصلة إلى البغية.
المتقون: الذين يجتنبون الوقوع في المهلكات أو الأمور التي لا يحمد عقباها، ومنه التقية، والوقاية، وقد جمع لبيد هذه المعاني بقوله:

إن تقوى ربنا خير نفل......وبإذن الله ريثي وعجل
وقال آخر:
سقط النصيف ولم ترد اسقاطه......فتناولته واتقتنا باليد

الكلمات مجتمعة:

مجمل الآية يعني أن الكتاب لا ريب في بيانه وحقيقته لمن يريد البحث عن الأصل المؤدي إلى الصواب الذي يمكن أن ينتفع به. فإن قيل: لماذا خص الله تعالى المتقين بالهدى دون غيرهم؟ أقول: خص الله تعالى المتقين بالهدي لانتفاعهم به أكثر من غيرهم، مما يدل على استجابتهم لتلقي المعارف القرآنية والعمل بها، وهذا كقوله تعالى: (إنما أنت منذر من يخشاها) النازعات 45. وكذا قوله: (إنما تنذر من اتبع الذكر) يس 11. من هنا يظهر سبب تكرار الهدى في قوله تعالى: (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدًى للناس وبينات من الهدى والفرقان) البقرة 185. أي أن الهدى الأول معروضاً لكل من يرغب فيه، أما الثاني فهو كالنتيجة التي حصل المتقون عليها، ويمكن الوصول إلى هذه الحقيقة من خلال قوله تعالى: (وآتيناه الإنجيل فيه هدًى ونور ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدًى وموعظة للمتقين) المائدة 46. فإن قيل: هل الوقف على قوله quot;لا ريبquot; هو الصواب أم على قوله quot;فيهquot;؟ أقول: الوقف على quot;فيهquot; هو الصواب باعتبار أن الوقف على quot;لا ريبquot; يجعل الهدى في بعض الكتاب. فإن قيل: كيف الجمع بين ما ذكرت وبين قوله تعالى: (إنا أنزلنا التوراة فيها هدًى ونور) المائدة 44. وكذا الآية التي أشارت إلى الإنجيل بنفس المعنى والتي ذكرتها قبل قليل؟ أقول: لم ينزل الله تعالى إلى بني إسرائيل جميع أنواع الهدى أو النور وذلك لضعفهم في الاستجابة لما ألقي إليهم، وهذا ظاهر في قوله تعالى: (يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله) المائدة 44. ومن خلال هذه المتفرقات يظهر السبب الذي جعل القرآن الكريم مهيمناً على الكتب السابقة، كما أشار تعالى إلى ذلك بقوله: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه) المائدة 48.


* من كتابنا: القادم على غير مثال


[email protected]