كالديدان التي تفسد الثمار من الداخل، لم تلبث الطائفية السياسية التي جدّدت نفسها وبضراوة أكبر بعد إنهيار النظام الديكتاتوري عام 2003، إلاّ أن تكون السلاح الداخلي الأمضى، بيد القوى السياسية المتنفذة هذا اليوم في العراق، من أجل التعبئة والتأثير على الرأي العام وشراء الأصوات والذمم للوصول الى مواقع المسؤولية والقرار. فضلا عن إستخدامها كوسيلة سهلة وتحت التصرف، عوضا عن العمل الدؤوب على إستراتيجيات وبرامج سياسية تعيد بناء الدولة والمجتمع على أسس جديدة غير تلك التي ورثتها من الماضي وكانت السبب الأكبر في تجويف الدولة وإنحطاط السياسة وضحالة رموزها وماوراءها من تدميربطيء ومنظم، للإنسان والعمران والمجتمع والقيم الإجتماعية ومن تحويل لمؤسساته الحديثة الى خرائب تنعق فيها الغربان.

وكما قادت المصالح الأنانية الضيقة لغالبية أقطاب ورموز العملية السياسية في البلاد الى إستسهال نفخ الروح في الطائفية الدينية والمذهبية والأثنية نتيجة غياب رؤى سياسية حقيقية ومدروسة تشكل محورأ للنقاش والحوار وتبادل الآراء حولها، وبالتالي التوصل الى تسويات وتنازلات متبادلة تفضي للإجماع السياسي وإعادة بناء الأجندة الوطنية على ضوءها، قادت التناقضات والمضاعفات الناشئة عن تضارب تلك المصالح المتشابكة في ما بينها الى صراعات مستمرة وعقيمة حول مصادر السلطة والثروة والنفوذ لحساب أجنداتها الخاصة، وما يرتبط بها من شبكات ومافيات داخلية وخارجية تعمل اليوم بنشاط وتعتاش على ضفافها وحواشيها في الدولة والأحزاب السياسية ومؤسسات الإدارة المدنية والعسكرية قاطبة، وتعمل تماما بما يمكن أن نطلق عليه : quot;تضامن الفاسدينquot;، من خلال آليات ووسائل وإمكانيات كبيرة، وفرتها لهم المواقع الحكومية الجديدة، مثلما وفّرت الطائفية السياسية أرضا خصبة للتشوهات والشلل والإنسدادات السياسية الدورية وإعادة إنتاج التوترات وشحن الأحقاد والضغائن وتقويتها والإسراع الى تجديدها بصيغ وأشكال ومسمّيات مختلفة، كلّما لاحت بوادر الرفض والإحتجاج من قبل المجتمع الذي أنهكه التطلع لحياة تليق بالبشر والوصول الى الإستقرار السياسي وتوفير الخدمات وفرص العمل ومحاربة الفساد المالي والإداري والسياسي ووضع حدّ نهائي للإستهتار والتزوير ونهب المال العام والتحلي بالشعور بالمسؤولية وإحلال الكفاءة محل الولاء والموالاة التي تمثل بمجموعها جوهر الإصلاح والتغيير السياسي المطلوبين.

إنّ الطائفية في المجتمع ليست بحدّ ذاتها قدرا لا يمكن الفكاك منه، فهي إذ تنتعش أو تنحسر في الأوساط الإجتماعية نتيجة أسباب يمكن السيطرة عليها وبالتالي دفعها كظاهرة إجتماعية سياسية، الى الوراء كي تخلي المكان لصالح علاقة أرقى وأسمى منها وهي علاقة المواطنة، من خلال خلق شروط إنبثاق المجتمع المدني المستقل، والمجتمع السياسي المشارك بالشأن العام، والمواطن السياسي العارف بحقوقه وواجباته والعمل على تشجيع المبادرات الفردية والجماعية وإحترام الآراء والحريات العامة وإعلاء معاني الحقّ والقانون والعدالة والمساواة بين الأفراد والجماعات بغض النظر عن إنتماءاتهم المختلفة، ولكنّ الصعوبة، بل مكمن الخطورة في الطائفية، حينما تنتقل الى الدولة ذاتها وتصبح هي ومؤسساتها المنبثقة عنها بمثابة حاضنة شرعية لها ولإنقساماتها وتستخدمها كوسيلة وأداة لإستغلال مشاعر التضامن الطبيعي والإنتماءات الإجتماعية الفرعية لغايات سياسية ضيقة ومقاصد فردية أضيق، توظف حميّة الدين والمذهب والقومية لصالحها حين تريد وتنتظر منها، وتلجأ اليها فقط، عند الحاجة للشرعية لإنتحال صفات التمثيل للإرادة الشعبية، ولا توفر لها في نهاية المطاف، سوى ما يحقق أهدافها السياسية الخاصة وهي غالبا ما تكون، أهداف فردية وشخصية لمستبدين صغار لم تظهر من تصرفاتهم وسلوكهم السياسي سوى صورة الديكتاتور البائس في المرايا المهشمة.

والطائفية السياسية بهذا المعنى، لا دين لها ولا قانون وأعراف وضوابط أخلاقية، يمكن أن تردعها أمام شهوة المال والسلطة ولا يمكن لها إطلاقا، أن تخلق نظاما سياسيا مستقرا، ولا أن تقدم أيّ نموذج تنظيمي مقبول لإدارة الدولة والمجتمع، فهي تستمدّ قوتها وأسباب وجودها، من خلال تجديد وتمديد وإستمرار النزاعات والتوترات والدوران حولها وإدامتها وتغذيتها بمشاعر العداء والتهديد والقلق والخطر من الآخر، وتكريسها في الوعي الجمعي بين أبناء الوطن الواحد. والحال فمن الطبيعي في هذه الأوضاع الإنتقالية التي تمرّ بها البلاد وتسود فيها تفكيك الفكرة الوطنية وتكسير حواملها من قوى ومنظمات وأحزاب وتيارات وشخصيات سياسية، التي إجتمعت في المرحلة السابقة حول مفاهيم الوطنية والديمقراطية كبديل حقيقي ومشروع للنظام الديكتاتوري السابق، وإعادة تركيبها في المرحلة الجديدة وفق الأجندات الخاصة التي صاغتها تعقيدات الإحتلال والتدخل الخارجي والمصالح الفئوية الداخلية والتي نجني هذا اليوم جميعا، الثمرّة المرّة لمصالحها الآنية وتوجهاتها العابثة، على الأصعدة السياسية والإقتصادية والإجتماعية والثقافية عموما، الأمر الذي يفسرّ ضعف وفراغ الساحة السياسية العراقية من مشاريع وقوى تتصدى لإعادة الإستقطاب حول أفكار الوطن والمواطن والوطنية. بيد أنّ الأوضاع الإستثنائية الراهنة ليست بنهاية المطاف، فهي تفرز بشكل متزايد من قوى الرفض والإحتجاج الإجتماعي الواسع كما لم تعهده الأنظمة التقليدية المستبدة في العراق وفي المنطقة العربية من قبل، وتعكس بصورة واضحة ضمأ الشعوب والمجتمعات للحرية والكرامة والعدالة وحقوق الإنسان، القادم فجره المنير قريبا، لا محالة.