quot;لا ابداع بلا ثقافة ولا ثقافة بلا فكر ولا فكر بلا لغةquot;

اللغة علما صور دماغية مرمزة (مشفرة) بالفاظ (رموز صوتية) او خطية (كتابية) بعدد محدود من (الرموز او الحروف) بكل لغة. ولتمييز هذه الرموز وتحويلها الى صور دماغية، مراكز معينة لتجمعات خلوية على سطح الدماغ، وعلى هذا السطح ايضا، مراكز اخرى لاصدار الالفاظ (الاستجابة الكلامية اوغيرها)، وبدون هذه الاصوات وتحليل رموزها يفقد (الحيوان الناطق) النصف الثاني من اسمه هذا، الذي نستعيض عنه بلفظ (الانسان)، لان النطق (اي اللغة) هي وعاء الفكر، التي تكوّن مع (الذاكرة بشقيها القريب والبعيد) كل التراث الانساني والتقدم المتواصل للجنس البشري.

للدماغ البشري قابلية (1) تكوين الصور الدماغية للاشياء المادية كصور الحيوان والاشجار والجبال وبالتالي مسمياتها المحفوظة بمراكز الذاكرة، بالاضافة الى ذلك، له قابلية (2) خزن صور الامور المعنوية كالصدق والكذب، وصور اخرى معنويه كالموسيقى، التي تعتبر لغة لصيقة بمراكز تمييز الرموز في الدماغ، فالموسيقى لها نفس الخواص الفيزيائية (ذبذبات في الوسط الناقل) التي يحدثها (جَرْسُ الحرف) في المراكز العصبية، وللدماغ البشري ايضا قابلية(3) نقل الصور الدماغية الى المتلقي باللغة المشتركة، وللدماغ كذلك قابلية (4) تركيب اي اضافة مكونات اخرى على الصورة الدماغية الاصلية، لانتاج معان او مفاهيم يحملها للصورة الاصلية، ونجد امثلة كثيرة لذلك في الاساطير (الميثولوجيا) وفي الشعر الحديث، من كلام الحيوان وجناحي الثور المجنح لتحميل الكلمات اي الصور الدماغية مفاهيم ومعان اضافية.

الابداع كلمة تعني ايجاد صور دماغية لا سابق لها، والمبدع هو الذي وهب هذا الدماغ الذي يتصف بقابلية غير عادية في تركيب الصور الدماغية المبتكرة، باعتماده على الخاصية التركيبية للدماغ المبدع.

اللغة العربية احدى لهجات الاكدية التي تمتاز عن بقية اللغات غير الاكدية في كونها لغة اشتقاقية، وهذه الصفة اعطت حروف بنائها خاصية حمل ظلال من المعاني، والمعروف منذ ايام الخليل، ان لكل حرف عربي (ظلالا) من المعنى لا تجده في اللغات الاخرى، فأغلب جذور الافعال الثلاثية التي تبدأ بحرف الغين تعني الاختفاء (غاب، غام، غرب، غرق، غرس)، والعكس التي تبدأ بالنون ولاسيما ما كان متبوعا بحرف الباء (نبع، نبت، نبر، نبا، نبس)، هذه خاصية في حروف اللغة العربية، وربما كانت سببا في فخامة لغة القرآن والاعجاز اللفظي في اختيار كلماته، حيث ان جرس الحروف، اي موسيقاها، تعطي (ظلالا) من المعاني لا تدركها الا الاذن العربية او المتعمقين بدراستها من الاجانب.
كان الشعر العربي معتمدا في تركيبته على ثلاثة اسس، الوزن (الموسيقى) والقافية والمعنى، وتعتبر القافية جزءا من الموسيقى الشعرية، فهي كفعل ضابط الايقاع، الذي قد يستغنى عنه، وترك القافية لا يحدث الكثير من الضرر بموسيقى الشعر، اما ترك الموسيقى فسيفقد الكثير من (ظلال) المعاني التي يمتاز بها الحرف العربي، والموسيقى من الوسائل القوية في احداث الاثر النفسي والفني للشعر، ولا نجد في تاريخ الشعر العربي شعرا بلا موسيقى، ولنترك الموسيقى والقافية جانبا، ان هنالك محاولات لالغاء الاساس الثالث للشعر (المعنى)، فقد كتب احد نقاد الادب العراقيين بجريدة الزمان (العدد 3710 ndash; السبت ndash; 2 تشرين اول) تحت عنوان اقتبسه من شاعر غربي يقول (القصيدة لا يجب ان تعني... بل ان تكون)!

ولا افهم اصرار بعض (المبدعين) على الافلات من النصف الثاني من لقب (الحيوان الناطق)، فاللغة وعاء الفكر، بل يشبّه بعض الادباء الفكرة(المعنى) واللغة مثل الخمرة والكأس، فاذا اخلينا الكأس من خمرته، لن نعطي المتلقي الاكأسا فارغة!

ترجم الاستاذ عبد القادر الجنابي في ايلاف في ركن ثقافات (الثلاثاء ndash; 16 مايو - 2006) مجموعة من قصائد الشاعرة الامريكية جيروترود شتاين، التي عاشت معظم حياتها بباريس، وتوفيت عام 1946 عن اثنين وسبعين عاما، يقول الاستاذ عبد القادر مقدما لترجمته: (هدف الشاعرة الاول والاخير هو ان يكون كتابها هذا لوحات لغوية، طبيعة ميتة من الكلمات، قصائد لا تدل على شيء... كتل ترفض ان تكون محط دال ومدلول. انها لغة منغلقة على نفسها، فالشاعر هنا ليس لديه موضوع ليعبر عنه، او قضية لكي تستجلى) الى ان يقول (في قصائد شتاين، اللغة فحسب هي الثيمة الاساسية، الموضوع، والاداة. من هنا تعتبر شتاين اول من شق الطريق امام حركة ستظهر بعد مرور ربع قرن على موتها، وهي حركة [شعراء اللغة]). وهذه ترجمته لاحدى قصائدها تحت عنوان (في الوسط):
[بين مكان وحلوى، ممشى ضيق، الذي يكشف عن تصاعد اكثر من اي شيء، كثيرا جدا حقا، من ان اتصالا دالا عن مخدة، قاست الكل بذلك. عذراء عذراء، بت الامر فيها، ولذلك بين الاقواس والخطوط العامة والفصول الحقيقية، والاكثر بين النظارات، وترتيب لم يسبق له مثيل بين السيدات الكبيرات السن، والبرد المعتدل، ليس ثمة خشب صقيل يتلألأ ]. ولم يكن الاستاذ عبد القادر متحمسا لهذا (الشعر) كما بان من تعليقه على الترجمة وحياة (الشاعرة).

ومن خواص العربية الاخرى انك لا تستطيع قراءة النصوص العربية الا ان تكون فاهما معناها العام، ولا سيما عند خلوها من الحركات الاعرابية، فكيف سيفهم المثقف العربي هذه الالغاز.

نعود الى الطب، دماغ الانسان جهاز بحجم جوزة الهند، وبشكل نصف الجوزة الاعتيادية، وبلون الكبد النيء، وبطبيعة (الجلي)، خلاياه في كل انسان ثابتة العدد، بحدود مئة بليون خلية عصبية (في كل انسان، اي رقم واحد امامه اربعة عشرة صفرا) ولذلك فذكاء الانسان لا يعتمد على عدد الخلايا، وانما على عدد الترابطات بينها، وبالتالي الخيوط العصبية ونهاياتها التي تربط الخلايا ببعضها البعض.

حواس الانسان الخمس لا تعطيه الا خريطة للعالم الخارجي، وبمعونة المراكز الدماغية العليا يكون الصورة (الحقيقية) للعالم المحيط، والدماغ جهاز له مهمتان رئيستان في حياة الحيوان، (الناطق منه وغير الناطق)، هما حماية الذات وحماية النوع، ولذلك اصبح الانتباه والحذرمن الاقران والمنافسين، والجنس للانجاب لحفظ النوع، ارجو من القاريء الكريم العودة للحقيقة الاولى في علاقة المبدعين مع بعضهم.

في نقاط التقاء نهايات الاعصاب بالخلايا الاخرى، تتكون مواد بالغة الدقة في مقدارها، بالغة التأثير على الانسان فكرا وتصرفا وانتاجا، اغلبها ذات صفات تشبه الى حد بعيد المخدرات او هي المخدرات بذاتها، بل ان خمسة منها من المركبات الافيونية، ومادة اخرى تسمى كيمياويا السيروتونين، تشبه الى حد بعيد مادة ( LSD) التي تؤدي الى الهلوسة، واعطاء متعاطيها شعورا غير اعتيادي بالخفة والسعادة، والمادة الثالثة الرئيسية هي الدوبامين، تجد ادناه خواص هذه المواد ونتائج تأثيرها على الدماغ البشري:
(1) السيروتونين (هورمون السعادة) مع انه ليس بهورمون، ويعمل على:
1. الهدوء والتفاؤل والرغبة الجنسية.
2. تقل شهية الطعام بزيادته.
3. زيادته البالغة تؤدي الى الهلوسة لمشابهته للتركيبه الكيميائية لل( LSD).
4. تنظيم درجة الحرارة، وضغط الدم.
5. تنظيم النوم (دورة النور والظلام).
6. تنظيم الايقاع (السير والنوم والاحساسات الموسيقية والشعرية).
7. فعالية الجهاز التناسلي الانثوي (الايقاع الزمني).
8. تخفيف الآلام الجسدية.
9. يساهم في الذاكرة والتعلم.
10. موجود بالصفائح الدموية ويساهم بتكون الخثرة الدموية (مضيّق للاوعية الشعرية).
11. يساهم مع هرمون النمو بالنمو.
12. يساعد في عمليات ايض الكبد اعادة تشكيل خلايا الكبد المصابة(في الادمان الكحولي).
13. في حالات ارتفاع مستواه قد يؤدي الى الاورام المسماة بالكارسنويد مما يؤدي للتناذر المصاحب لها (تورد الوجه والاسهال المصحوبان بمشاكل بالقلب ndash; الصمام الثلاثي الايمن)
14. زيادته تؤثر سلبيا على صلابة العظام.
15. في كبار السن قد تؤدي زيادته للاصابة بالسمنة وداء السكري من النوع الثاني.

تؤدي قلته الى:
1. الصداع النصفي.
2. الكآبة وفي حالات قد تؤدي قلته للانتحار.
3. الشعور بالغثيان فان كثر ادى الى التقيء.
4. زيادة شهية الطعام.
5. صعوبة شفاء الجروح.
6. حركة الامعاء.
7. قلته المفاجئة في الاطفال الصغار يؤدي الى الموت المفاجيء (لمفعوله على مركزي القلب والتنفس في جذع الدماغ)
يتواجد في الفطريات وفي نهايات الاشواك النباتية وفي الاميبا مسببا الاسهال وفي قشور البذور ليساعد على سرعة خروجها من القناة الهضمية. وفي سموم الحشرات كالنحل، وفي الانسان في مصل الدم والغدة النخامية وعضلات الامعاء والصفيحات الدموية. اهم مصادره الغذائية التمر والموز والفاي فاي والجوز.

(2) الدوپــامين: يعمل على:
1. تنظيم مستوى اليقضة.
2. الشعور بالخفة والنشاط (والتأنق اللفظي والبياني).
3. جنون العظمة (شديد الشك والغيرة من المنافسين).
4. الهياج (زيادة دقات القلب) والهلوسة وزيادة ضغط الدم.
5. مع الاوكسيتوسين يساعد على انتاج رعشة الجماع.
6. زيادته تؤدي المبالغة في المجاملات.
7. وزيادته ايضا تؤدي الى زيادة الرغبة الجنسية.
8. زيادته تؤدي الى زيادة الشهية للطعام.
9.مهم للذاكرة والتعلم والانتباه وذاكرة العمل.
10. تواجده مهم للقيام بالحركات السريعة (الخوف و المعاركة و الهرب).

وفي حالة قلته:
1. انعدام الانتباه والتركيز.
2. الكسل والنوم والبلادة واللامبالات.
3. الاحساس بالدونية وحقارة الذات.
4. الكآبه وقد تؤدي بوجود الظروف الى الادمان.
5. الانسحاب من المجتمع (اعراض الشيزوفرينيا).
6. عدم القدرة على بدء الحركات الارادية.
7. الرعاش العصبي (مرض باركنسن) وامراض مشابهة.
8. التوحد (غالبا في الطفولة).
من ناحية التركيب الكيمياوي: الدوبامين والسيروتونين والنورادرينالين متقاربون، ويعمل الثلاثة في (التفكر والاحساس والتصرف) اي اليقضة والادراك والانتباه والالتفات للنفس.
(3) الميلاتونين: يفرز اثناء الليل، تتناسب كميته تناسبا عكسيا مع النور، زيادته تؤدي الى النوم، وقلته الى الارق. لا آثار عقلية له.

(4) الافيونيات: وهي خمسة مواد في الجهاز العصبي المركزي (الانكيفالين ndash; الداينورفين ndash; الاندورفين - والاندومورفين - والاورفانين ). تفرز في الحالات التالية:
1.الحب وهزة الجماع.
2. الهياج والقلق.
3. الالم والمعانات.
4. تناول المواد الحارة كالفلفل.
5. زيادة حرارة المحيط كالساونة.
افرازها يؤدي الى:
1. الاحساس بالارتياح والرضا والسعادة.
2. الاحساس بالارتخاء.
3. توقف الآلام.
4. منبه لشهية الطعام، والرغبة في شرب الماء.
5. تقليل الاحساس بالبرودة، بتوسيع الشرايين الدقيقة بالجلد.
6. الزيادة البالغة تؤدي الى (ذهول العلماء !!!).
7. الزيادة المرضية تؤدي الى اختلاط الحواس، فيبصر صوت البلابل، ويسمع لون الورد، ويشم رائحة الآلام، ويلمس طعم البطيخ !!!

ملاحظات:
الافيونيات الخمس تقلل افراز الدوبامين، وتزيدمفعول الكوكاين، وتولد اضطرابا بالاحساس الزماني والمكاني.
الداينورفين اقوى من الاندومورفين عشر مرات.
في (الحشيش) اي القنب، توجد مادة اسمها (الانامايد) لها نظيرة يفرزها الدماغ في حالات القلق والمنافسة مع الانداد.
ويتباين الناس وراثيا ومرضيا في مفاعيلها على (الصور الدماغية) وما يمكن ان يعطيه (المبدع) لهم من (ابداع شعري وادبي)، مجرد ان تتأمل فعلها على (الدماغ المبدع) تعرف مسار التطور الادبي وبالتالي (الابداع)، ويستطيع القاريء الكريم ان يفسر الكثير من تصرفات ومشاحنات الادباء عبر المرور بدور هذه المواد وعشرات غيرها لا يسع المجال ذكرها، كما يعطي هذا فكرة عن المفهوم القديم عن الخيط الدقيق الذي يفصل االمبدع العبقري عن المجنون، والذي لم يعد له وجود عند المبدع والمتلقي، سيما وان الهزات العصبية التي تنتج عن الحياة العامة في الحروب، والتغيرات السياسية التي يتأثر بها المبدع قبل غيره لحساسيته، ستؤدي الى ظهور شعر وادب لا يعلم الا الله مدى بعده عما كنا ندعوه (العقل)، داعيا في الختام المولى ان لا يجعلنا منهم !!!

لندن