في كل مرة تتأزم فيها العلاقة بين بغداد وكردستان يعلو صوت من شمال العراق يطالب بإستقلال كردستان عن الدولة المركزية في بغداد ليعلن قيام دولة كردية على أساس قومي. إن هذا الصوت يأتي غالبا ً من الحركات القومية الكردية الداعية لإستقلال كردستان ولم يتنكر له الساسة الأكراد في بغداد، حتى أن السيد مسعود برزاني أكد هذا الحق في مناسبات عديدة وفي أوقات مختلفة. السؤال المهم هو، هل من الممكن إقامة دولة كردية من الناحية الواقعية، وما هي العواقب التي يمكن أن تنتج عن ذلك إذا نظرنا للأمر من الناحية المعيارية، أي ماقيمة أن تقام دولة كردية للكرد وماذا يعني ذلك لغيرهم في المنطقة؟

نعم، من الناحية الواقعية يمكن لكردستان العراق أن يستقل عن المركز، حتى بدون أن يحصل على الإعتراف من بغداد. ومن الناحية القانونية وحسب ميثاق الأمم المتحدة، أن لكل شعب الحق في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة إذا رأى ذلك مناسبا ً له. بالتأكيد، سوف لن يكون الموضوع سهلا ً وبلا عواقب دراماتيكية يمكن أن تؤدي لحرب محتملة تضع المنطقة على كف عفريت. فموضوع كركوك غير محسوم إلى الآن، ولا أعتقد بأن الأكراد سوف يعلنون الإستقلال من دون ضم كركوك إليها. وهناك أيضا ً المناطق المتنازع عليها، بالخصوص تلك التي يسكنها مزيج من الكرد والعرب والتركمان. وهذا الأمر سوف لن يكون سهلا ً على إيران وتركيا وسوف لن يمر مرور الكرام بلا عواقب. أضف إلى ذلك هو أن الإستقلال لن يلقى صدى طيب في أغلب الدول العربية التي لديها أقليات، والتي ستكون داعما ً قويا ً للعرب السنة في عملية النزاع على المناطق المتنازع عليها مع الكرد. أما الولايات المتحدة الأمريكية فلا أعتقد بأنها ستضحي بعلاقاتها الإستراتيجية مع دول كالسعودية وتركيا لصالح عيون الكرد. كما أسلفت، كل هذه المشاكل يمكن أن تعيق إقامة دولة كردية، ولكن من الناحية الواقعية يمكن أقامة دولة كردية.

أما من الناحية المعيارية، أي قيمة أقامة دولة كردية، فالموضوع أوسع وأشمل. السؤال هو، ماهي عواقب قيام دولة على أساس عرقي؟ بالتاكيد هناك من يقول أن الدولة الكردية ستكون ديمقراطية، ولكن، هل ستكون هناك ديمقراطية حقيقية أم مجرد شعارات كما في أغلب الدول العربية. لابد أن نفهم بأن الديمقراطية الحقيقية تصتدم بشكل مباشر بفكرة القومية وذلك لأن فكرة القومية، وأقصد القومية كأيدلوجية وليس كإنتماء وثقافة، هي بالضد من مبدأ المساواة والتعددية، بل حتى ضد فكرة الحرية. إن القومية كأيدلوجية أصبحت في ذمة التاريخ والكثير من الدول التي أسست على أساس قومي بدأت بالتحول نحو التعددية والحرية والمساواة كالدول الأوربية التي تحولت من دول قومية إلى دول متعددة الثقافات. حتى أن تلك الدول بدأت بالتخلي عن فكرة التمثيل الإجتماعي، أي تذويب الثقافات القادمة إليها بالثقافة القومية الأصلية لتركز على فكرة الإندماج وهو إحتفاظ الثقافات بهوياتها مقابل الإندماج بالمجتمع، بل في النظريات الحديثة في الإندماج يطلب من ثقافة البلد القومية أيضا ً الإندماج في الثقافة القادمة ليكون الإندماج متبادل من قبل الطرفين. أن أي نفس قومي في فكر الدولة الحديثة يعتبر نوع من أنواع العنصرية وأي إقصاء يعتبر نوع من أنواع التمييز في أعراف الدولة الحديثة.

إذن، هل سيختار الكرد دولة على أساس قومي ويرفعون شعار الديمقراطية، أم ماذا ستكون هوية تلك الدولة؟ إذا كانت هوية الدولة الجديدة ديمقراطية فماهي فائدة الإستقلال والدولة المركزية في بغداد ديمقراطية، حيث يتمتع فيها الكرد بوضع جيد قياسا ً بباقي الأطراف في تلك المعادلة تحت مظلة الهوية الوطنية. أن مشكلة الأكراد الحقيقية هي مع دولة دكتاتورية في المركز قائمة على أساس قومي أيضا ً، كنظام حزب البعث في العراق، أما العراق الحالي فهو تعددي فيدرالي في طبيعته حيث لاتوجد مشاكل جوهرية حقيقية تعيق الكرد من نيل حقوقهم كشعب له تاريخ وثقافة. أما إذا كانت الدولة الكردية الجديدة ذات هوية قومية فهي بالتأكيد ستكون خطوة للوراء إذ ما فهمنا بأن هذا سيؤدي لتقوية الهويات القومية المحيطة بالكرد كردة فعل ويدعو الأكراد في بلدان عديدة لفعل نفس الشيء. بل سؤدي ذلك لفشل المشروع الديمقراطي في المنطقة والذي يمثل بديل جيد بهوية وطنية بعيدا ً عن النفس القومي. أن الذي سيموت فعلا ً في دولة قومية هو الحرية والمساواة وسيعلو صوت فكرة التوحد والتقوقع والخوف من الآخر ليقضي ذلك على كل الحركات الليبرالية والديمقراطية في الدولة الجديدة بحجة الحفاظ على الكيان القومي. أن فكرة القومية دمرت دول وشعوب بأكملها في العالم العربي وتبخرت أحلام القوميين مع الريح في حركة التغييرات الجديدة التي تخطو للأمام بمفهوم التعددية والإعتراف بالآخر لنيل حقوقه السياسية.

أن الشعب الكردي عانى كثيرا ً من بطش الحكومات الدكتاتورية والشمولية ولاينتظر بطش جديد من الحركات القومية التي سوف تصادر حرية الإنسان الكردي قبل غيره بحجة الحفاظ على كيان الوطن الواحد. لقد ناضل الشعب الكردي حتى حصل على مكاسب كبيرة في العراق ومكاسب لابأس بها في تركيا وبالتاكيد سيحصل عى مكاسب في إيران في المستقبل القريب. أن التركيز على الهوية الكردية، كهوية ثقافية في ظل نظام يحترم التعدد، كباقي الهويات الآخرى في مشاركة حقيقية لإدارة بلد فيدرالي لهو أسلم للكرد وباقي القوميات في المنطقة، لينضوي الكرد تحت مسمى الهوية الوطنية خير من دولة قائمة على أساس قومي عرقي.

أن ما ينتظره الشعب الكردي من ساسته ومنظرية هو الحرية والكرامة والعيش الكريم وليس المزيد من المآسي المفتعلة من أجل أحلام ربما لن تتحقق على أرض الواقع. أن مستقبل الشرق الأوسط مع الديمقراطية والحرية والمساواة ومع التعددية التي تتفكك بها الأيدلوجيات القائمة على أساس قومي أو ديني أو مناطقي. أن من حق الشعب الكردي تقرير مصيره بأي إتجاه يكون، فهذا حق طبيعي له ولكل شعوب العالم، ولكن عليه أن لايقع ضحية أفكار هي ضد منطق التاريخ، أو قل هي أحلام يتمناها كل إنسان وليس لها من الواقع شيء. فعلى الساسة الأكراد النظر لما يحدث من تغييرات في المنطقة وعدم تجاهل ذلك بأي حال من الأحوال. فإذا عانى الكرد من الخطر الخارجي المحيط بهم عبر التاريخ، كإضطهاد العرب والترك والفرس لهم، فهذه المرة سيكون الخطر داخليا ً، أي من الكرد أنفسهم لتكون الدعوة للحرية والمساواة عمالة وخيانة للوطن كما تفعل كل الحركات القومية الداعية لفكرة الوحدة.

عماد رسن
[email protected]