حين يكون الحديث عن شخصية تاريخية خطيرة غيرت الكثير من تاريخ إيران والعراق والمنطقة وعدد من الدول الإسلامية وغير الإسلامية الأخرى بحجم الإمام الخمینی يفرض العدل والأمانة أن نعترف بانه كان مناضلا تاريخيا تجاوز كل النماذج المألوفة لدينا من الثوار الذين صبروا وصابروا بشجاعة نادرة وعزيمة صخرية نادرة فلووا عنق الزمن وصنعوا الأعاجيب. فالرجل كان متفردا في شجاعته وقوة الشكيمة والصمود. وهو فوق هذا وذاك مفكر إسلامي مهم وكبير له فلسفته ورؤيته للدين والدولة والحكومة.

وفي حدود التنظير الفكري والفلسفي لا يملك الإنسان العادل والموضوعي إلا أن يحترم آراءه وفكره وعقيدته، ولكن في أطار الرأي النظري وحسب، ومن حق اي ٍ كان أن يناقشها ويتخذ منها موقفه الخاص. فقد تعجبه أفكارُه، كلـُها أو بعضها، وقد لا تعجبه، كلـُها أو بعضها، أيضا، وهو حر في حكمه، مثلما كان الخميني نفسُه حرا في فكره وعقيدته.

ولكن الخميني لم يبق في حدود الفكر النظري حين دخل عالم السياسة، وجلس على كرسي القيادة في إيران، ممسكا بكل صغيرة وكبيرة من شؤون المجتمع والحكم فيها، فارضا آراءه ونظرياته وأحكامه الشخصية على كل ما في إيران من شعوب متفاوتة ومتنوعة في الديانة والطائفة والقومية والمصلحة والسياسة والثقافة والاقتصاد، وحتى في الثقافة والعادات والتقاليد، داعيا إلى تطبيق الدين الإسلامي بصيغته التي يعتقد، هُو، بأنها هي الأمثل والأصلح والأحق بالاتباع، حاكما على كل مخالفيه في الرأي والعقيدة بالكفر والمروق والخروج عن طاعة الله ورسوله. الأمر الذي جعله يُفتي باجتثاث آلاف العلماء والخبراء والمفكرين ورجال الدين والقادة العسكريين والسياسيين والمثقفين والفنانين التشكيليين والمطربين والموسيقيين وُكتاب الرواية والشعر، ويأمر بسجن بعضهم وتهجير البعض الآخر ممن يرى فيهم عقبات وموانع تعيق مسيرته، وتعرقل ولادة حلمه الكبير في إعادة أمجاد الامبراطورية الفارسية القديمة، ولكن بثياب إسلامية شيعية خالصة هذه المرة.

وأول ما فعله الإمام الخميني أنه شطب جميع أنواع الفوائد من عمل المصارف، باعتبارها نوعا من الربا، وألغى الكثير من القوانين والأنظمة المدنية، ومنع تدريس الكثير من العلوم والفنون، وحرَّم الكثير من النشاطات والعادات والتقاليد، ليس على الإيرانيين المسلمين وحدهم، بل على غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، وألبس المرأة، المسلمة وغير المسلمة، حجابها المُقفل، وقنن للناس الصغير َ والكبير من أمورهم الخاصة والعامة معا، وفق ما يراه، هُو، فارضا بقوة السلاح والسجون والنفي والرجم والقتل والتشهير ومصادرة الأموال، رأيه الشخصي الخاص على الملايين، وبقسوة ليس لها مثيل.

ثم بالغ أتباعُه ومريدوه في قولبة حياة المواطن، في أدق تفاصيلها، بما فيها الملبس والمأكل والمشرب والاستماع والقراءة وساعات العمل والنوم ومواعيد الخروج من المنزل وإلعودة إليه. وهم وحدهم، ودون الرجوع إلى الإمام نفسه، من يقرر مَن من المواطنين يحق له العمل السياسي والترشح والانتخاب والسفر والتجارة والصناعة والصيام والصلاة، ومَن منهم لا يستحق سوى الحجر والسجن والجَلد والرجم والنفي أو الاعتقال.

ولعل أخطر ما فعله الخميني بإيران أنه منح جماعاته المتطرفة تلك، والتي كانت أقرب إلى الغوغائية والعبثية والعشوائية، صلاحيات مطلقة في تطبيق نظرياته الدينية والسياسية والاقتصادية والثقافية الجديدة، بقوة الدولة وجيوشها وأدواتها الكثيرة. وكان أغلبهم أميين وجهلة لا يملكون القدرة على فهم الفكر الخميني وتشخيص أهدافه، ناهيك عن أمور السياسة الأخرى.

وأمثلة ذلك كثيرة. فقد تولى قادة المناطق ورؤساء الفرق التنفيذية في المدن والقرى القريبة من العاصمة والبعيدة عنها مهمة إجبار الناس على الخضوع لفكر الزعيم وموازينه ومقاييسه للأخلاق والعقيدة والفكر والسلوك، بالترهيب والتهديد والوعيد أحيانا، وأحيانا أخرى كثيرة بالسياط والخناجر والسكاكين والكواتم، علنا ودون تردد ولا مواربة ولا خوف ولا حياء، بل كانوا يفخرون بسلوكهم ذاك، ويَعُدونه جهادا في سبيل الله. ومما يذكر في هذا الخصوص أن الرئيس الإيراني الحالي أحمدي نجاد قاد مجاميع غاضبة من أتباعه الشباب اليافعين فتسلقوا جدار السفارة الأمريكية في طهران وأخذوا موظفيها رهائن.

ورغم ذلك، وإلى هذا الحد، لم يكن لغير الإيرانيين الحق في الاعتراض على هذه الممارسات، ولا على طريقة تطبيق نظام الخميني لقونينه الجديدة، باعتبار ذلك مسألة ًإيرانية داخلية محضة، رغم الصلة الحميمية بين جميع المجتمعات الإسلامية، وتأثيراتها المتبادلة.

لكن حين أطلق الخميني نظريته الشهيرة المعروفة باسم تصدير الثورة إلى الخارج، ساعيا إلى فرض أفكاره وخيالاته وأحكامه على المسلمين وغير المسلمين في الدول المجاورة والبعيدة، معا، أصبحت المسألة قضية عامة تخص باقي الشعوب، وتمس حياتها في الصميم وتهدد أمنها وسلامها وحياة أجيالها القادمة.

ومعروف ماذا حدث بعد ذلك. فقد هيأ الغرب، أمريكا وأوربا، بالتحالف مع دول الخليج العربية، مغامرا صعبا آخر لا يقل عن الخميني عنجهية وعنادا وإصرارا على فرض عقيدته الواحدة على الآخرين، ألا وهو صدام حسين، مع ما كانت له من عداوة شخصية سابقة مع الخميني أوقدها (السيد النائب) آنذاك، حين أمر بطرد الإمام المعارض للنظام الإيراني من النجف، ووضْعه على حدود الكويت، لإرضاء الشاه وإصلاح العلاقة معه. فلم ينس الخميني تلك الإساءة البالغة، وقد كانت أحد أسباب الحرب بين العدوين العنيدين، بل أهم تلك الأسباب، دون منازع.

ومعروف أيضا ماذا أنتجت تلك الحرب الطاحنة التي امتدت ثماني سنوات من ويلات ومصائب وخسائر في الأرواح والأموال والكرامة، على البلدين والشعبين والمنطقة. ثم انتصر صدام، بحماية الأمريكان والخليج والأردن ومصر، ولكنْ انتصارا بطعم الهزيمة، وُهزم الخميني، هو الآخر، وأجبر على قبول قرار وقف إطلاق النار الذي شبهه بتجرع كأس ٍمن السم.

وهنا أدخلُ القسمَ الساخن من هذه المقالة. ماذا حقق الخميني لشعبه الإيراني، أولا، وللشعب العراقي، ثانيا، ولباقي شعوب المنطقة والعالم الإسلامي، ثالثا، بذلك الفهم المتطرف لروح لإسلام ومحاولة فرضه على الآخرين بقوة السلاح؟

كم خسرت إيران، وكم تخسر اليوم، وكم ستخسر غدا في ظل نظام الولي الفقيه الذي َخلـَـف الخميني وحافظ على منطلقاته التوسعية غير الواقعية وغير القابلة للتطبيق ولا التحقيق؟ وكم خسر جيران إيران وكم سيخسرون في الصراع الدامي المستمر بين نظرية تصدير الثورة وبين مجتمعات ترفض تلك الثورة وتخاف منها؟ بل كم خسر الإسلام بالتمويل الإيراني لفرق القتل والتفجير والتجسس والاغتيال، في دول قريبة وبعيدة عنها، من أفغانستان إلى العراق ولبنان وفرنسا والبرازيل؟ وكم سيخسر في قادم الأيام؟ ألم يزرع الفكرُ الخميني الرعب في قلوب الأجانب من الإسلام، ويجعلْ كل مسلم، في اعتقادهم، مشروعا إرهابيا موشكا على الانفجار؟ ألم تفسد إيران الخميني ثم خامنئي نجاد حياة المسلمين وتقطع أرزاق الملايين منهم، وتقلب أمنهم خوفا وغناهم فقرا وعلمهم جهالة؟ ثم ألم تتحالف مع أنظمة فاسدة ظالمة لا تقل فسادا وظلما عن نظام الشاه الذي ثارت عليه؟ ألم تمول عصابات إرهابية وأحزابا مشاكسة مخربة وتسلحها وتحمي مجرميها القتلة من يد العدالة؟.

والسؤال المهم، هل صحيح أن إسلام الخميني هو الصحيح وإسلام غيره مشوب بالريبة والشكوك؟ وهل صحين أن الدين الإسلامي، كما رآه الخميني، دين قتل وتآمر واغتيال وتهريب ورشوة وفساد؟
وفي عصرنا الجديد العجيب هذا، هل يمكن نشرُ إسلام الخميني في أوربا وأمريكا وآسيا وأفريقيا واستراليا؟ فهل نستطيع أن نطلب من المصارف العالمية، مثلا، إلغاء الفوائد، واستبدالها بالمرابحة التي هي فوائد ولكن مُقنعَّة، خصوصا، بعد مئات السنين من الحرية الفردية والديمقراطية والعلمانية؟ هل يمكن أن تطيعنا المرأة السويدية والألمانية والفرنسية والأمريكية، مثلا، حين نطلب منها أن تتحجب وَتقرَّ في بيتها وتترك البنك والشركة والمصنع والحقل والشرطة والجيش؟

خلاصة الكلام، إن الدين الإسلامي دين حيوي متطور يطوع تعاليمه حسب الزمان والمكان، لينفع الناس وينشر بينهم العدل والكرامة والسلام، لا ليشعل الحروب بينهم، ويسيل دماء أبنائهم في حروب غبية غير مبررة ولا معقولة يشنها متزمتون سلفيون بالمفخخات والكواتم والجواسيس والمنظمات الإرهابية السلفية المتطرفة، بدل الرحمة والوسطية والعقلانية والمسامحة واحترام حقوق الغير وحرياتهم، وأخذ الشعوب بالتي هي أحسن، ومسايرة العصر وفهم طبيعته ولغته ومفاهيمه الجديدة التي يبدو أنها تعجب الناس، كثيرا هذه الأيام، وتدخل في عقولهم وقلوبهم وأرواحهم، وفي أدق تفاصيل سلوكهم وأمزجتهم وعاداتهم. فكيف يمكن إنكارها، ناهيك عن طلب تركها والعودة إلى دولة الإسلام الأولى، بدون مصارف ولا متاحف ولا مدارس تعلم النشأ الجديد علوم الفضاء التي لا تؤمن بالخرافات بل تقوم على أساس التجربة العلمية العملية الثابتة والمؤكدة، وعلى الإنترنيت وحرية الفكر والعقيدة واستقلال القضاء عن الكنيسة والجامع، وحرية المرأة واحترام إنسانيتها، وعدم جواز الجمع بين زوجتين، واعتبار تزويج القاصر نوعا من البغاء؟

إن العصر يتجه نحو تعميم نظام الدولة المدنية العلمانية الديمقراطية التي يروج المتعصبون الدينيون،، زورا وظلما وبهتانا، أنها دولة الإلحاد وإنكار للدين، وهي في حقيقتها العملية والعلمية السائدة، دولة عادلة عاقلة تحرر المجتمع من سطوة أي سلطان، دينيا كان أو عسكريا، وتمنع رجال الدين والعسكر من التدخل في صنع القوانين، وزرع العداوات والصراعات في المجتمع.
إن دولة العلمانيين، من أجل أن ُتؤمن حرية ً متساوية لجميع أتباع الأديان والعقائد والطوائف من مواطنيها، لا تسمح بفرض عقيدة واحدة على المواطنين، حتى لو كانت عقيدة الأغلبية من السكان.

وفي قانونها أن الدين علاقة شخصية محضة بين الفرد وربه، ومهمة رجل الدين رعاية هذه العلاقة وتقويتها وتعميقها. أما السياسة والحكم والوزارة والبرلمان فلها أهلهُا وأصحابها المتخصصون بشؤونها.

والدولة العلمانية في حقيقتها، وكما رأيناها وعشناها في دولها، أكثرُ احتراما للأديان، وأشدُ حفاظا عليها من دول ٍ يحكمها أصحاب عمائم، مسلمين أو يهودا أو مسيحيين. ففي أمريكا، أعداد هائلة من الجوامع والكنائس والأديرة والجمعيات والتنظيمات الدينية الوافدة من كل بقاع الدنيا، لا تتوفر في أية دولة أخرى في العالم. وفيها يملك رجل الجامع والكنيسة حرية وكرامة وقدسية أكثر مما يمكن أن يتوفر له في دولٍ دينية أخرى عديدة.

سكانهُا ثلاثمئة وخمسون مليونا من البشر، تسعون بالمئة منهم مسيحيون، ولكن لا يستطيع مسيحيٌ واحد، مهما كانت سلطته ووظيفته أو ثروته، أن يفرض على غير المسيحي إقفال محل تجارته في أعياد المسيحيين، ولا أن يجبره على الصوم في أيام صوم المسيحيين، ولا أن يأمره بأن يهرول إلى الكنيسة المسيحية أيام الأحد والأعياد.

ثم لا علمانية بدون ديمقراطية تساوي بين الناس جميعا، دون تمييز بعضهم عن بعض بسبب طائفة أو دين أو عرق أو جنس أو لون. ولا وجود في الدولة العلمانية لمواطن درجة أولى، وآخر درجة ثانية، بأي مبرر وبأية ذريعة.

إن الزحف قادم، مهما فعل الكارهون. ولعل أكثر ما يواجه الإرث الخميني المتشدد، اليوم، هو ثورة شباب الإنترنيت والربيع الذي يجتاح العالم، من آسيا إلى أوربا وإلى أمريكا ذاتها.

فإذا كانت هذه الجماهير، من شرق الأرض إلى مغربها، لم تصبر على جشع شركات وبنوك سرقت بعض قوت أطفالها فثارت عليها هذه الثورة العالمية العارمة، فكيف نتوقع أن يطول صبر الإيرانيين على كل ما في دولتهم من قهر وقمع وظلم وتجهيل وتجويع وتخلف؟

شيء آخر. إن نظام الحليف الوحيد الباقي لإيران الخميني راحلٌ لا محالة. فثورة الشعب السوري العنيد لن تتوقف إلا عندما تنتصر. وبسقوطه سوف ينكسر المنجل الإيراني الممتد من طهران إلى بيروت، عبر بغداد ودمشق.

هذا مضافٌ إلى أن نظام طهران لم ُيتقن شيئا، منذ تأسيسه إلى اليوم، قدر إتقانه صناعة الخصوم والأعداء، في داخل إيران ذاتها، وعبر القارات الخمس كلها. وعلى قدر أعدائك يكون عقابك ساعة الحساب.

إن هذا العصر هو عصر التمرد على المفروض، وزمن الخروج على حكم الأنظمة الباطشة، وموسم الكفر بتخاريف العجائز المُحنطة.

نتمنى أن تعود إيران إلينا دولة شقيقة عزيزة مسالمة متحضرة متقدمة مزدهرة ُتنفق ثرواتها الهائلة لإشباع أهلها وإعمار مدارسهم ومستشفياتهم، وليس على تمويل المنظمات والأحزاب الإرهابية المخربة في الدول القريبة والبعيدة، وتدريبها على المؤامرات والاغتيالات وإزعاج المجتمعات الآمنة.

وبكل تأكيد، وبكل الحسابات والمقاييس، إن عالما بدون خامنئي ونجاد ونصر الله وبشار وعلي صالح ومعمر وأمثالهم أجمل وأهدأ وأكثرُ أمنا وسلاما، وأليقُ بكرامة البشر. فهل من مجادل؟