منذ أن وطأت أقدامي أرض المدينة الفاضلة، وأنا أعيش ورطة الانتظار. أتلمس قلبي فلا أجده.فقد أصبح غير صالح للخفقان.وماذا عساي أن أفعل به؟فقد خنقت كل دقاته، وذبحت أمومتي بيدي، وأنهيت شراكة زواج هادئ. لم يتبق لي غير قليل من الهدوء أو لنقل الاستكانة والتسليم.والآن اختصرت نفسي في كلمة مجرد اسم. وتخليت عن ملامحي التي لن أحتاجها، مادمت سأبقى هنا للأبد، فهنا نفضت عني كل حمولات الزمن،أصبحت كسفينة ألقت بكل حمولاتها جاهدة أن تطفو من جديد.

فأنا الآن بغير ألقاب،لا مانع، بغير ملامح، ومن يدري؟؟ بخوف أقل،ربما؟

هل تمنيت الرحيل يوماَ؟؟ كيف لا؟وأنا التي اخترت منفاي بيدي !لأصبح عاطلة عن العمل،اُمنح لقمتي، وأتنقل بين الأماكن. توعدتني الحياة : لا مهرب لك أيتها المغبرة بتراب معركة أزلية، اختبئي خلف هذه الجدران السميكة، تدربي على النسيان،جندي أقدامك للتنقل من ملجا إلى ملجأ، من عتبة إلى عتبة. ولم لا؟ سمعاً وطاعة،فلم تبق منطقة في (المدينة الفاضلة) إلا ومرغوا روحي فيها،لا أحتاج لتزوير ملامحي،لا أطيق النظر في المرآة،لا أحب أن أتعرف على وجهي الجديد، فقد ذابت البهجة وتوارى الألق. ماذا تبقى؟؟ ابتسامة ملؤها المرارة والألم أقابل بها مجموعة الوجوه التي تحلقت حولي.

ثمة غصة تلازمني وألم دفين شفيف غائر في القلب أدرك أقاصيه. وسؤال يلح على مسامعي : ماذا فعلت؟

لقد أشحت بوجهي عن منظومة لا أعلم كيف قدر لها هذا الخلود والتسلط والهيمنة؟

لقد تمردت على تراثي الأزلي.هذا التراث المترافق بصورة مذهلة مع المشاعر المظلمة والفكر السوداوي المثخن ndash; والمولع ndash; باللون الأحمر ورائحة الدماء ! لكنه تراث تبوأ مكانه باعتباره أشد التراثات ضراوة وثراء؛وذلك لتماهيه مع ينابيع المال من جهة، وبالقضايا الغيبية من جهة أخرى.

تراث هيمن فكره ورموزه على أرواحنا الطليقة، يمارس سطوته على موضع أقدامنا وحركات أصابعنا وقسمات وجوهنا، يلج معنا كل الأبواب ولا يستثني باباً، حتى خلق منا مسوخاً شائهة لا تقوى حتى على غربلة المفاهيم المجحفة واللامعقولة ؛، لا تستطيعان تنفض يدها عن الخلل الذي تجذر في ضمائرها.لكنني استبدلت جذوري بسيقان أطلقتها لرياح الغربة، واخترت ملاذي ومنفاي ؛ هذه المدينة الهادئة المتكتلة على نفسها،الشامخة في وجه الزمن بمبانيها الصامدة. ولكن برودتها وقسوتها أفقدتني بهجتي بالحياة،أبطات خطوات أقدامي، أصابت إيقاعي المتدفق بالسكتة الدماغية،أبدلت آمالي العريضة بأحلام اليقظة، وألقتني في غياهب الانتظار.

وماذا عن الوطن؟؟ أنا الان خارج إطار هذه الكلمة بكل ما تحمله من معان وتداعيات. فالوطن كما نعرفه جميعاً هو الأهل والأحباب، هو الصديق الوفي، البيت والأسرة، لقد أفرغت هذه الكلمة من كل مدلولاتها. فالماضي ذاب و والحاضرمؤلم والمستقبل مرهون بكلمة طال انتظارها. وهكذا أصبحت في هذه الغربة بلا زمن، أنا الآن خلف الزمن.