بدعوة من جمعية المرأة العراقية، ألقى ضياء الشكرجي في البيت العراقي، بمدينة يتبوري، السويدية، محاضرة بعنوان الديمقراطية والإسلام، قدمه الناشط المدني عباس سميسم، وحضرها جمع كبير من العراقيين،وقد اتسمت نقاشاتهم بالحيوية والاهتمام العميق بمجرى العمل الفكري والسياسي في العراق!

تحدث الشكرجي بأسلوب تحاشى فيه الصياغات المعقدة والمصطلحات الأجنبية أو التقريرية، فانسابت محاضرته من عقله ووجدانه معاً مرتبطة بمسيرته الفكرية والحياتية،وجاءت صريحة شفافة حميمة كمن يسارر أصدقائه! وتلك سمة محببة في الشكرجي، تؤكد أن الرجل في تقلباته الفكرية والسياسية، لم يكن سوى باحث عن الحقيقة والصدق بين الناس والحياة والفكر!

يمثل الشكرجي نموذجاً واضحاً للمثقف العراقي القلق المهموم بقضية الوطن والإنسان وتحولاته الحادة والعميقة عبر الحقب والمراحل الفاصلة في نصف القرن الأخير من تاريخ العراق!

فهذا الرجل النحيل الدقيق الملامح، ابن الأسرة الفقيرة الكادحة في الكاظمية، عانى كثيراً في مخاضات وولادات فكرية عسيرة عصفت به عبر محطات ومواقف كثيرة!
في مطلع شبابه كان أقرب للإلحاد، لكنه لم ينجذب للشيوعيين، بل إلى البعثيين، نافراً كما قال مما التصق بالشيوعيين آنذاك عن حق وباطل من أعمال وسلوكيات العنف،لم يمكث مع البعثين طويلاً، نفض يديه منهم بعد أن وجدهم اشد عنفاً وقسوة وتدميراً، هاجر إلى ألمانيا منتصف الستينات لدراسة الهندسة.

في الجو الأوربي الجديد الزاخر بكل الظواهر الحضارية المتناقضة والمستفزة، استيقظت في أعماقه ذكرياته القديمة،ونهضت فجأة في أعماقه منائر الكاظمية وأنوارها الذهبية، وعمائم أأمتها وطلبتها، وجوها الشيعي المترع بالحزن، فوجد نفسه يعود للإيمان الديني، بل مضى في تدينه لما هو أبعد،صار هو نفسه رجل دين يرتدي المسوح الدينية مقلداً رجل الديني الشيعي حسين فضل الله الذي كان آنذاك بارزاً في لبنان، ثم وكيلاً له في ألمانيا!

أوائل الثمانينات انتمى إلى حزب الدعوة، فتخلى عن وكالته الفقهية، وركز نشاطه في مزيج من العمل الحزبي والديني حتى بلغ درجة حزبية متقدمة في حزب الدعوة، وصار أحد كوادره المعروفة!

خلال فترة إيمانه الديني والدعوتي لم يكن عضواً متطابقاً مع قيادة حزبه أو أيدلوجيته الخفية التي يستنكر ضيقها وسريتها، أو المعلنة التي عليه أن يبشر بها،وظل مختلفاً بهذا القدر أو ذاك عن كل هذا، وعلى مسافة تزداد اتساعاً كلما تصاعد النهج السياسي للحزب ليتطابق مع السياسة الإيرانية ويخضع لها،ما احدث انشقاقات وتمزقات داخل الحزب، لم يكن الشكرجي بمعزل عنها! إذ كان هو شديد الحرص على استقلال القرار الحزبي الدعوتي العراقي، وعدم التفريط بوطنيته من أجل الدعم الإيراني، أو الأممية الإسلامية في نزعتها الفارسية!

تساءل عن صراع الإسلام مع الديمقراطية مع المتسائلين: هل من غير الممكن تعايشهما معاً؟ أم لابد لأحدهما أن يلتهم الآخر، ويبقى لوحده منهمكاً بشأنه الخاص الذي لا ينسجم مع شأن الآخر؟ هل سيكون من المحتم كما في كل إرهاصات التاريخ العربي والإسلامي وانتفاضاته الانتصار للدين؟ ألم تضف مكونات وأحداث العصر الحالي وركائزه الإنسانية قوة للديمقراطية، وإضعافاً للمراكز الدينية خاصة بعد بروز ظاهرة الإرهاب وربطها بالأصولية الإسلامية؟ مع كل ذلك ما يزال قطبا المعركة غير متكافئين، فالإسلام هو الأكثر قدماً ورسوخا وتغلغلاً في وعي الناس الجمعي والفردي،ولديه مساجده الكثيرة، ومؤسساته الراسخة على الأرض، والمعركة محسومة لصالحه مهما كانت ضرورة الديمقراطية وحاجة الناس لها.

لذا يرى أن العلمانية التي لا ديمقراطية حقيقية بدونها، هي الآلية التي تفض النزاع بين الطرفين بفصلها الدولة عن الدين، ولا يمكن لها أن تعيش دون الديمقراطية حيث يصير الدين خياراً شخصياً في ظلها، ولا تكون الدولة مؤمنة مؤسلمة، كما لا تكون كافرة ملحدة بالضرورة أيضا، لكنها لا تخرج عن أطر العقلانية والإنسانية!

في العراق،وفي الظرف الحالي وجد أن من الممكن القناعة بالعلمانية الجزئية التي تكتفي بفصل الدين عن الدولة،رغم إن العلمانية إذا لم تمتد إلى مجالات أخرى، وتكون شاملة قدر الإمكان، خاصة لمجال التربية والتعليم والقوانين الأساسية، قد تعيد إنتاج الهيمنة الدينية على الدولة والمجتمع،وتنفي نفسها! ( سألته بشكل خاص أيهما أكثر ضراوة في معادة العلمانية والديمقراطية الفكر الإسلامي الشيعي، أم الفكر الإسلامي السني؟ أجاب: كلاهما يعاديان الديمقراطية والعلمانية بنفس الحدة والعنف، لكنهما يستعملان الديمقراطية بقدر ما تخدم مصالحهما،وينبذانها حين تصدم معها!)

وبينما يسيطر المتدينون على مقاليد الحكم في العراق، مستفيدين من الديمقراطية كناقلة لهم إلى السلطة، رافضين للعلمانية لأنها تفرغهم من شحناتهم المذهبية والغوغائية،تظل قضية العلمانية اليوم محور صراع رئيسي محتدم خطير يتقرر على نتائجه مصير العراق كله، لذا ينبغي تصعيد الجدل حولها ومواصلته وتعميقه ليشمل قطاعات كثيرة من الناس ليتحول إلى حركة جماهيرية جارفة، تحاط على الدوام بمزيد من الندوات والنداءات واللقاءات الفكرية المنظمة على مستويات محلية وعالمية من قبل جهات قادرة ومعنية بها، ترافقها تغطية من الفضائيات ومواقع النشر الإلكتروني وعلى أوسع نطاق ممكن!

وكما اتسمت محاضرة الشكرجي بالأهمية طرحت تحولاته الفكرية تأملات واهتمام الحاضرين وهذا مؤشر جديد. فتحولات المثقف العراقي، ظلت وإلى عهد قريب تقابل بالرجم والتخوين والعزل والمحاصرة، أو في أفضل الأحوال بالنظر إليها بسخرية واستخفاف، بينما هي حالة إنسانية عرفها العالم والبلاد العربية على مر العصور، وترتبط عادة بالتحولات والانفجارات التاريخية الكبرى! فالمثقف هو العقل الحريص المتتبع الذي تتجمع فيه أصداء الأحداث بقوة هائلة، وهو الضمير الأكثر رهافة وإحساساً بقضية العدالة والصدق بين البشر، لذا فإن تحولاته كثيراً ما تكون عارمة وقوية، ومفاجئة لمن حوله!

مسيرة الشكرجي تثير في النفس لواعج كثيرة فهي تعيدنا إلى التقلبات والانعطافات الحادة في أوضاع العراق على مدى الحقب الماضية، وإلى تلك الانهيارات والتداعيات التي دفع المثقفون العراقيون ثمنها باهظاً، إذ نالت من أرواحهم وأعمارهم،حيث قضى كثير منهم في السجون وتحت التعذيب، وارتحل آخرون إلى المنافي، التي أثخنتهم بالمزيد من الجراحات والآلام! وفي هذا الخضم تحول المثقف من الديني إلى اللبرالي، من الماركسي والشيوعي إلى اللبرالي،ومن اللبرالي والشيوعي إلى الديني،أو إلى الوجودي (بما تبقى من مفاهيم الوجودية المنسية) أو العبثي المغرق في يأسه وعدميته ولا مبالاته! كل تلك الحالات تقتضي التفهم والإدراك والوعي بها، وتلمس جوانب من نبض الحياة عبر خلجاتها وتجلياتها الكثيرة!

ولكن لا بد من رصد ظاهرة أخرى تسير بمحاذاتها: وهي الانتقال إلى موقع سياسي وأيدلوجي لا عن قناعات وتفكير عميق، بل لضرورات انتهازية واضحة،فكم من ماركسي أو شيوعي أو لبرالي أو بعثي،وقومي تذكر اليوم أصله الطائفي فجأة، وتحول إلى الخندق الديني والطائفي بعد أن كان محلقاً في سماء أكبر،وراج يجأر بالشكوى مؤكداً بضمير مرتاح حد الموت،أن مظالم الماضي كلها كانت قد استهدفته، وطائفته فقط لا غير، وبعضهم ممن أدركته حرفة الكتابة في أرذل العمر، تقدم الصفوف ليكون من وجوه الصف الطائفي الأول البارزة، ومن دعاة الطائفية المروجين لمشاريعها المدمرة، المبررين لأخطائها وجرائمها، وبهوس هستيري مخز،غير مدرك إنه بذلك يسيء لطائفته،ولا ينفعها في شيء!
هذه الظاهرة المضحكة المبكية في اتساع، حيث الأحزاب الطائفية الحاكمة والمتحاصصة معهم أتاحت لهؤلاء ولأبنائهم وظائف ومواقع كبيرة، وسبل إثراء سريع فاحش في أجواء من الفساد والانحلال الأخلاقي والثقافي!

يقدم الشكرجي النموذج الصحيح والسليم لتحولات المثقف مهما اختلفنا معه في هذا الرأي أو ذاك، فهو لم يكن انتهازياً في تحوله، كان عضوا متقدماً في حزب الدعوة، عندما كان الحزب في المعارضة، ملاحقاً مضطهداً تشكل عضويته لدى النظام السابق حتى لو كانت منقضية جناية كبرى عقوبتها الإعدام، وتخلى عنهم عندما صار قادته وكوادره،كأعضاء النظام السابق، أصحاب سلطة ومال وجاه يلاحقون معارضيهم ويقررون مصائرهم،ويغدقون على أصحابهم وأنصارهم من الثروات والمناصب ما يشاءون!

عندما كان الشكرجي في أحضان الفكر الديني كان يبدو لأول وهلة مستمتعاً في جنته المتكئة على يقينيات كثيرة، لكننا اليوم نكتشف إنه لم يكن نائماً في ظلالها الوارفة بل أرقاً، متسائلاً: ما الذي يجعل هذا الفكر واثقاً من الدنيا، والآخرة؟ ما مدى صحته وفاعليته وتماسكه ونواياه الحسنة أو السيئة؟ إلى أي حد يستطيع تغيير الواقع؟ بذلك تحول عنه إلى فكر آخر!

في مرحلته اللبرالية هذه وجد نفسه في محنة حقيقية لا تبعد كثيراً عن الجحيم، فمساره لم يكن سهلاً، كانت العقبات تبرز في طريقة مبيتة كالألغام! فقد ذهبت اقتراحاته وهو يساهم في صياغة الدستور سدى أمام مقاومة رفاقه القدامي المتدينين،إذ أصروا على أن يكون الدستور بهذه الصورة الطائفية والقومية المشوهة المستفزة المعوقة.

حين خرج إلى الفضاء الفسيح وحاول مع اللبراليين تكوين تجمعات وتنظيم أو تيار ديمقراطي، لم يستطع الوصول إلى نتيجة كبيرة مجدية، ما يدلل على أن اللبراليين ما زالوا لم يضعوا أقدامهم على طريق نضوج مشروعهم بعد، وما يزال الأفق أمامهم مدلهما غائماً عاصفاً، يقتضي الكثير من الجهد والتضحية!

بعد انتهاء المحاضرة،وجدنا البيت العراقي يعد صوراً وبوسترات لمسيرة احتجاج على اغتيال هادي المهدي، وقف الشكرجي أمامها حزيناً ًواجماً، صار الحوار اليوم مع اللبراليين والعلمانيين بالرصاص والدم، الكلمات التي قيل منها الكثير هذا المساء تذهب إلى عزلتها الطويلة، والحلم بالتغيير يتعثر بصخرة التراجيديا اليونانية، التي كلما قارب العراقي الوصول بها إلى قمة الجبل تتدحرج، ليكون عليه حملها مرة أخرى وأخرى، إلى ما لا نهاية!

قال لي ونحن نخرج من بناية البيت العراقي القديمة، وقد واجهتنا هبة ريح باردة:في كل تحولاتي كنت مدافعاً عن الله، فأنا أجده هو المثال الأعظم والأعلى الذي لا يمكن أن يكون مسؤولاً عن أخطاء الأديان والمتدينين، الله منزه برئ من كل ما نسب إليه، وهو يحب المتمرد عليه عن تفكير، أكثر من المتعبد له بحكم العادة أو مجارة للآخرين، قلت له ولكن صمت الله على المفترين، طال كثيراً، وتفاقمت الشكوك! قال: كل شيء في أوانه!