عندما تنفتح أمام مختلف مكونات المجتمع سبل الانخراط في العمل السياسي والمساهمة في صنع القرار أو التأثير على الجهات التي تعود اليها هذه المهمة، أفرادا كانوا أو مؤسسات ذات الاختصاص نكون امام ممارسة سوية تتسم بالسلاسة، سواء في فترات العلاقات العادية بين مكونات المجتمع السياسي أو في حالات التوتر والصراع التي يصطلح عليها بفترات الأزمة. ذلك أن شروط المنافسة محددة سلفا بحيث يضع كل من يعمل على خرقها او تجاوزها، نفسه في موقع هامشي او حتى في مواجهة مختلف مكونات المشهد السياسي العام الأمر الذي يقلل من حظوظه في تغيير قوانين اللعبة السياسية او حتى مجرد التأثير فيها بصورة جدية متى تم افتراض أن هذا هو الغاية المتوخاة من سلوكه السياسي.

إن الصدام المحتوم بين اللاعب السياسي من هذا الطراز وبين مجمل الطبقة السياسية، بغض النظر عن الأشكال التي يتخذها هذا الصدام، وكيفما كانت درجة حدته من الشدة والضعف يلعب، في الأغلب الأعم، ضد مصلحته لأن دخوله معمعة هذا الصراع معزولا يحدد طبيعة نتيجته سلبا على مصالحه في مختلف مراحل الصدام، الأمر الذي قد يرهن مجمل مستقبله بالمجهول ما لم يكن قادرا على تدارك الأمر قبل فوات الأوان.

إن الظروف العامة التي تجري فيها الممارسة السياسية هي التي تساهم في تحديد أهداف القوى الفاعلة في مجتمع من المجتمعات، ذلك أن هذه الأهداف مشروطة بمدى إمكان انجازها أو كونها غير قابلة للإنجاز على المدى القريب أو المتوسط أو البعيد. وتلك الشروط العامة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية هي التي ترسم الاطار الممكن للممارسة الممكنة. وهي، بالتالي، تحد من حظوظ من يتجاوز ذلك الاطار في ان يجد طريقه الى الواقع ليحتل موقعا مؤثرا فيه، اللهم اذا استطاع الانتصار في المواجهة المحتومة بينه وبين المؤسسات القائمة والقوى التي تمثلها وتجسد مصالحها. وبالتالي، يكون في مقدوره قلب قوانين اللعبة رأسا على عقب، وخلق شروط نوعية تماما تبلور اطارا جديدا بصورة جوهرية بحيث يصبح ملائما للممارسة في ضوء تلك الشروط ضدا على برامج واستراتيجيات الخصوم على مختلف مستويات تلك المواجهة.

عندما تكون الاهداف واقعية، ويكون هامش حركة القوى السياسية الفاعلة رحبا تكون الحركة السياسية حيوية ونشطة في تفاعلاتها لأن مجمل القوى السياسية مدركة تماما لطبيعة السقوف التي لا يمكن تجاوزها وكل محاولة في هذا الاتجاه يمكن ان تواجه برفض المجتمع بأسره لأنه حريص على احترام عدد من التوازنات التي تسيجها وتحميها مؤسسات تشريعية وتنفيذية وقضائية تشكل التجسيد العملي لتوافقات مكونات المجتمع الرئيسية لجعل العيش المشترك ممكنا وافساح المجال امام مختلف التيارات الفكرية والسياسية للمبادرة والاقتراح وتنظيم حملات تعبوية سياسية وغيرها في سبيل تحقيق الاهداف التي ترى ان بامكانها تحقيق مصالحها دون ان تمس بجوهر المؤسسات القائمة وما تمثله من مصالح وما تترجمه او تنطوي عليه من رهانات على مختلف المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية.

وفي المقابل، فإن محدودية هامش الحركة والمناورة هي السبب المباشر وغير المباشر في العديد من الاحتقانات الاجتماعية والسياسية التي يعاني منها المجتمع، ذلك ان كل القوى التي تجد نفسها محشورة في زاوية ضيقة تبحث لنفسها عن مخارج قد تصطدم بمساعي القوى المنافسة لها في هذا الميدان، بل وقد تجد نفسها في صراع صريح وواضح مع المؤسسات القائمة على اعتبار انها هي التي تحمي هذا الهامش، وتمثل الحاجز الرئيسي والعقبة الملموسة في وجه كل محاولات اختراقه لتوسيعه أو حتى إعادة النظر في طبيعته.
ولعل ما يزيد هذا الاحتقان حدة، ويجعله محفوفا بالمخاطر محاولة بعض القوى أن تجعل من ضيق هامش الحركة موضوع رهانها في مختلف صراعاتها مع من لا تتقاسم معها من القوى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الاهداف والمصالح ذاتها. فهي غالبا ما تناصب تلك القوى العداء مستقوية بمفاهيم الشرعية والمشروعية، أو الثوابت الوطنية في صيغتها الهلامية وغير محددة الملامح، ولا معروفة الضفاف، وهو ما يعني، في نهاية المطاف، الاستقواء بمؤسسات النظام القائم بما في ذلك المؤسسات القهرية المختلفة من جيش وقوات أمن والتي تتم تعبئتها وحشدها لمقاومة كل القوى التي ترغب في توسيع دائرة هوامش الممارسة السياسية المستقلة عن الأطر الرسمية، وتعمل على منعها من احتلال مواقع جديدة ضمن معادلات الممارسة السياسية تكفل لها التأثير النسبي أو الكبير في صنع القرار السياسي والاستراتيجي.

إن الصراعات المتولدة عن هذا النوع من التقاطب تؤدي إلى نوع من الاهتزاز في أسس النظام الشرعية، حتى في الوقت الذي يحقق فيه اصحاب هذا الرهان بعض المكاسب على حساب الخصوم السياسيين، لأن مجرد طرح وضع تلك المؤسسات على جدول أعمال تساؤلات قوى المجتمع ينطوي على إضعاف واضح وصريح لها وهي التي كانت في السابق موضوع إجماع شامل أو توافق واسع على أقل تقدير. وبطبيعة الحال، فإن الاختلالات المترتبة على هذا الواقع قد تؤدي في ظروف بعينها إلى تدمير الأعمدة التي يقوم عليها النظام مما يفتح المجال لبلورة بدائل على أنقاضه خارج إرادة سدنته وضدا على مصالحهم التي تصبح على طرفي نقيض مع مصالح المجتمع برمته.

إذ أن تطلعات القوى الاجتماعية والسياسية غالبا ما تكون متجاوزة للممكن الذي تتيحه المؤسسات القائمة والقوانين التي تقوم عليها وتنظم علاقاتها البينية، غير أن ما يميز المؤسسات المرنة عن غيرها هو القدرة التي تمتلكها للتكيف مع تطلعات قوى المجتمع الحية والتأقلم مع تطورات الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية على اعتبار أن الجمود الذي قد يظهر على تلك المؤسسات يدفع بها إلى مواجهات مفتوحة مع مكونات المجتمع الامر الذي يعرض كيانها ذاته للخطر كما أسلفنا. ولعل الحراك السياسي والاجتماعي الذي عرفته جل المجتمعات العربية في الشهور الأخيرة وأدى إلى العصف بعدد من الأنظمة السياسية التي كانت تبدو قوية ومتماسكة وإلى اضعاف أخرى بهذا القدر أو ذاك يكشف بعضا من أبعاد الواقع الذي تكون فيه أطر هوامش حرية حركة القوى السياسية من الضيق بحيث يصبح القطع معها السبيل الأضمن للخروج من مأزق المراوحة والانتظارية والجمود.

ليست المشكلة في محدودية الهامش، بل انها في عدم وضوح الاهداف المتوخاة من الممارسة، فالغموض في تلك الاهداف يصطدم، في كل الاحوال، مع كل الهوامش المتاحة واسعة كانت أم محدودة. الا ان المشكلة تصبح مشكلة الهامش، حقيقة، عندما تكون تلك الاهداف واضحة وواقعية الا ان الهامش المتاح غير قادر على استيعابها والاستجابة لمتطلبات تحقيقها على أرض الواقع. ففي الحالة الاولى يكون العمل على التوضيح والملاءمة المهمة المركزية لدى القوى الفاعلة في المجتمع. أما في الحالة الثانية، فإن التفكير ينبغي ان ينصب على موضوع الاصلاح السياسي لاعادة هيكلة النظام وتطوير المؤسسات القائمة لتتلاءم مع مستجدات الاوضاع وخاصة على مستوى طبيعة الاهداف المستجدة ومتطلبات انجازها.

إن التغيير المطلوب يظل محدودا في الحالة الأولى كما يظل مقتصرا على القوى ذات الأهداف غير الواضحة والمطالبة بإدخال التعديلات الضرورية على برامجها السياسية، بينما تتطلب الحالة الثانية تغييرا هيكليا يجعل البناء الجديد قادرا على مواكبة التطورات على مختلف المستويات أي تطورات الممارسة السياسية للفاعلين من جهة ومتطلبات تطوير المؤسسات وتجديدها الدوري من جهة أخرى. وهذا ما يسمح بخلق ديناميكية تضع في قلبها التجديد المستمر لأطر الممارسة والتطوير الفاعل لقواعدها بما يضمن للمجتمع التقدم في أفق جعل الشرعيات التي يقوم عليها قابلة للتجديد ويبعد بالتالي المجتمع من بؤر الخطر التي تهدد بالعصف بكينونته الاجتماعية والسياسية ذاتها.