رحل عميد الاخلاق الدنيوية في العصر الحالي،بابا الاسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، أول أسقف للتعليم المسيحي وعميد الكلية الإكليريكية في مصر، الذي اعتلى كرسي الاسكندرية الرسولي المعروف باسم الكنيسة القبطية، حامل لواء الوطنية الرافضة للتطبيع مع اسرائيل، المعارض لاتفاقات كامب ديفيد، المقاتل بالمحبة لاجل تحرير القدس الفلسطينية، المعتقل من قبل رئيس مصر الاسبق انور السادات، المعتكف في الدير، ويحسب له رفضه زيارة الأقباط إلى القدس في ظل الاحتلال الإسرائيلي، و نصح الرئيس عرفات بخطورة ما يقوم به من الاستسلام للايدي الرجعية و الصهوينية، و رفض حضور دعوته، كما قدم النصح الى الملك الحسين بسوء نوايا اتفاقات وادي عربة، ومشددا على رفضها و خطورة التطبيع مع اسرائيل.

quot;البابا شنودة الثالث quot;توج للجلوس على كرسي البابوية في الكاتدرائية المرقسية الكبرى بالقاهرة في 14 تشرين الاول 1971 وبذلك أصبح البابا رقم (117) في تاريخ البطاركة الاقباط. و كان رحمه الله رمزا ليس في مصر وحدها وإنما في العالم العربي، ليس كرجل دين او رمزا للاقباط فقط و انما صاحب مبداء و فكر سياسي نظيف لم تلوثه السلطة او المال كما لوثت غيره، ليس مهم ان يحيا او يموت لان النفس امانة من الله يستردها متى شاء برحمته و مغفرته، و لكن الاهم ان تبقى افكاره والنهج الوطني والقومي الذي ارساهما حية، انه يوما سيئا برحيله و فقدانه للعالم الاسلامي كما هو للعالم المسيحي، فقدان كبير يؤسس لحالة فراغ ليس من السهل تعويضها.

لقد كنا شبابا في ربيع العمر بالاسكندرية ننهل العلم و السياسة من كلية الهندسة التى هي مفتاح العمل السياسي لمصر تليها كلية الطب في جامعة القاهرة، وقت ازدهار التيارات الاسلامية الدينية، و الجماعات الاسلامية، و المتشددين من التكفير و الهجرة، و السلفيين و الاخوان و غيرهم و مع ذلك كان الحرص من الاسلاميين قبل الاخوة المسيحيون على حضور اللقاء مع البابا شنودة للاستماع الى حديثه الوطني و صلواته الداعية الى تحرير فلسطين في كل مرة يصل الى الاسكندرية.

البابا شنودة لم يكن رجل دين، يطرز الروحانيات، او يغلف المواقف، و انما كان محبب في اعتناق المسيحية و زعيما وطنيا يجعل كل من يستمع اليه عاشقا للمسيحية الوطنية و ان كان اسلاميا.

لقد كان رحمه الله عليه زعيما توافقيا انتزع القلوب حبا من كل المواطنيين على اختلاف عقائدهم سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين.
لقد كان فلسطينيا اكثر من الفلسطنيين، عربيا اكثر من العروبيين، مؤمنا بتراب الارض المغتصبة كما ايمانه بتراب سيناء المحتلة، و حرم على المسيحيين الذهاب الى القدس طالما انها قابعة تحت دنس الاحتلال في الوقت الذي افتى بعض اصحاب عمائم الحكومة المصرية في عهد السادات بما كفر به البابا.

كانت للاسكندرية و لا تزال قيمتها التاريخية و السياسية و العمرانية في حياة الامم و عصور التاريخ، و اضاف البابا شنودة بحضوره و خطاباته القوية التى تمس وجدان الامة quot;عظمة quot; قومية لمدينة الإسكندرية و كنيستها المرقسية، حيث كانت عظمة الاسكندرية ان انتقلت الى القاهرة و لكنه اعادها بقوتة الى quot;الاسكندرية quot; مؤسسا لتاريخ جديد بعد الف عام على تاسيس المرقسية.

لقد حرص البابا شنودة على توسعة الكنيسة عام 1990 من الجهة الغربية وتم الاحتفاظ بالمنارات بعد تعليتها وتزويدها بنقوش قبطية جميلة وتقويتها في عهده، و كان ان تشرفت بدعوة حضور افتتاح الكنيسة الجديدة مع اصدقاء الطفولة من الاقباط المصريين.

ضمن ما اعتز به في حياتي، ان صافحت الزعيم الرئيس جمال عبد الناصر و انا طفل وقت ان زار طبيبه الخاص في شارع مختار عبد الحليم خلاف بالاسكندرية، ومن ثم رسالة موقعه بأسمه موجهه لي و انا طالب بكلية فيكتوريا بعد ان امر بنشر رسالتي اليه في كل من جريدة الاخبار و الاهرام المصرية و عمري لم يتجاوز التاسعة ولا ازال احتفظ بها و الجرائد المصرية، و اعتز ايضا بمصافحتي يد quot;البابا شنودة quot;بعد حالة تصفيق حاد لكلمة القاها في الكنسية دفاعا عن فلسطين مطالبا بعدم التفريط بها، و قد جاهدت الى ان وصلت اليه بين الوف محتشدة لاشكره و استمد منه قوة الايمان بالعودة و مصداقية الحق الالهي بأن فلسطين عربية.

يد عبد الناصر و البابا شنودة لهما رعشة تسري في جسد كل من يلمسهما، رغم رحيلهما الا انهما تذكر دوما كل من صافحهما ان الامل قائم ونهج الرجال باق في زمن عز فيه الرجال و ساد عهد الاستسلام.

لم يعلن بعد عن موعد او مكان دفن البابا، و لكنني اعتقد ان الكنيسة المرقسية بالاسكندرية مكانا يتشرف بوجوده و يزيد من اهميتها و مكاناتها الدينية و الرمزية للاقباط و المسلميين على حد السواء، علما بأن بعض الأساقفة عقدوا اجتماعا مغلقا للنظر أين سيدفن الجثمان إما في القاهرة في الكاتدرائية بالعباسية أو في وادي النطرون،
حيث كانت اعتكفاته.

رحمة الله عليهما، فلن يجود التاريخ بزعماء حقيقون من امثالهما عاشوا و ماتوا، من المهد الى اللحد، دون تغيير المبدء او العهد، لاجل قضية فلسطين و الامة العربية.

[email protected]