ثمة مساحات جديدة وفضاءات متعددة انبثقت من هوامش الحروب والمعارك العسكرية الحديثة التي اندلعت في الأعوام الأخيرة بعد أن وضعت البشرية أقدامها على أعتاب العصر الرقمي الذي انصهر، في كل تمظهراته، وانعكس من خلال تطبيقاته، على مجمل ما يدور في العالم الحقيقي الذي أمسى، وعلى نحو يحدث لأول مرة في تاريخه، معتقلاً داخل العوالم الافتراضية وأسيراً لمنصاتها الرقمية.

في المعارك الحديثة، لم تعد الأسلحة التقليدية، كالبنادق والدبابات والمدافع والطائرات، هي التي تسيطر على تفاصيل المشهد العسكري، أو تتحكم في خريطة نتائجها، أو مسارات مآلاتها، بل برز دور الاعلام، بصيغته وشكله المعاصر، الذي يستند، في خطابه ورسائله، إلى أدوات العصر الرقمي متمثلة بمواقع التواصل الاجتماعي المختلفة والمنصات الرقمية وتطبيقات التراسل الفوري المتعددة، ويسير، هذا النمط المهم من الاعلام، بالتوازي مع الحروب التقليدية وادواتها المعروفة عبر التاريخ.

وقد أظهرت الحرب الأخيرة التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي ضد مدينة غزة، والمستمرة لحد الآن، على أهمية هذا الجانب في المعركة ودوره الجوهري في حسمها، وكشف ما يحدث فيها من توضيح للحقائق، وتفسير أسبابها، أو تضليل واقع الاحداث، وتضبيب الرؤية المتعلقة بها، وتعرية الادعاءات المزيفة في حيثياتها، فضلاً عن حشد الدعم الدولي إلى أحد طرفي النزاع من اجل الوقوف معه وتجييش العالم لصالحه.

وقد سارعت إسرائيل، بعد أن استفاقت من صفعة حركة حماس في يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، إلى اللجوء إلى أدوات العصر الجديدة وأدواته الرقمية من أجل دعم موقفها، وما تتخذه من قرارات، وما ترتكبه من جرائم، وذلك عبر استراتيجية إعلامية رقمية تستند إلى رؤية واضحة في أهدافها وغاياتها، استنتجتها من خلال كتابات ورؤى وأفكار الاعلام الاسرائيلي، والأحاديث التي وردت في بعض اللقاءات مع مسؤولي هذا الملف.

نلاحظ، للوهلة الأولى، أن الاسرائيليين يؤمنون إيماناً رصيناً بأهمية مواقع التواصل ودورها الجوهري في بث وتسويق أفكارهم، فإسرائيل ليس لديها علاقات دبلوماسية مع معظم الدول العربية ولذلك لا يوجد تنسيق وتبادل معلومات وارتباط إعلامي مباشر بينهم، وبسبب ذلك فهي تلجأ إلى مواقع التواصل الاجتماعي وتستند إليها بكل قوة لتجعلها الفضاء الأنسب لنقل رسالتها وتوصيل صوتها للمواطن والمجتمع العربي والعالمي وتسويق سرديتها عن الاحداث ومواجهة الرأي الآخر ومحاولة تفنيده.

ومن خلال اطلاعي وتحليلي لما يجري في هذا العالم في الأشهر الماضية، أستطيع أن أؤكد أن استراتيجية إسرائيل في التعامل مع هذه القضية تتمثل في النقاط العشر التالية:

أولاً: إسرائيل تعتقد أنها تواجه حوالى مليار و800 مليون مسلم، في حين هناك 15 مليون يهودي فقط، وهي لا ترغب أن تُقنع من هم ضدها بمواقفها وما يصدر عنها، ولذلك نجدها، في تحليلي، توجه رسالتها وخطابها لفئتين:

الفئة الأولى: من يقفون في المنتصف وليس لديهم موقف مع طرفي الصراع الفلسطيني والاسرائيلي، ولا يمتلكون فكرة عما يجري على أرض الواقع، وهم ملايين الناس في شتى أصقاع الأرض ممن هم بعيدون عن السياسة ومنشغلون بحياتهم، وبذلك تريد الرسالة الإسرائيلية، بكل مضامينها، ان تقنع هذه الفئة بأحقية السردية التي تطرحها وصدقيتها.

الفئة الثانية: من يقفون معها ويساندون موقفها، ولذا فهي تهدف إلى تزويدهم بالمواد الإعلامية الكاملة الصالحة للنشر لكي يقوموا بالتسويق لها ونشرها عبر المنصات المختلفة للعالم.

ثانياً: تركيز الخطاب الإسرائيلي على الصحفيين الغربيين في العالم والمؤثرين على مواقع التواصل، وهو ما يشكل ركيزة من ركائز إستراتيجيتهم الرقمية، لأنهم يعتقدون ان الناس في العالم لا تقرأ منشورات إسرائيل أو حماس فقط، بل تقرأ على المنصات المختلفة، ملايين المنشورات التي يكتبها الصحفيون والمؤثرون وينشرها الناس العاديون، وهم يؤمنون أيضاً أنَّ بعض الحسابات لديها من المتابعين أو الموثوقية أكثر من إسرائيل نفسها، لذلك قامت وزارة الخارجية الإسرائيلية والدفاع بإنتاج مقطع فيديو مدته 74 دقيقة عن هجوم حماس على إسرائيل، وعرضته على بعض الصحفيين والمؤثرين الغربيين من أجل استدرار المشاعر وكسب مواقفهم وبالتالي تنعكس بشكل مؤكد على كتاباتهم ومواقفهم.

ثالثاً: تدار العمليات الإعلامية المتعلقة بالعالم الرقمي والمنصات من قسم خاص في وزارة الخارجية الإسرائيلية يترأسه شخصية تدعى ديفيد سارانغا وهو سفير سابق في رومانيا، وشغل مناصب عديدة كمنصب رئيس إدارة الاتصال بالبرلمان الأوروبي في سفارة اسرائيل في بروكسل، وقنصل متخصص بوسائل الإعلام والشؤون العامة في الولايات المتحدة، وكبير مستشاري الشؤون الخارجية للرئيس رؤوفين ريفلين، وكل هذه المناصب تشير لخبرة واضحة في التعاطي مع ملف الاعلام الخارجي والتسويق لصورة إسرائيل للآخر.

إقرأ أيضاً: عصر الحوسبة المكانية وعالم ما بعد الشاشات!

هذا القسم هو المسؤول الأول عن إدارة حرب الجبهة الإعلامية على صعيدها الرقمي بصورة مباشرة وعلنية، وعندما أقول بصورة مباشرة وعلنية، وذلك لأنني أعتقد بوجود جهات أخرى داخل إسرائيل وخارجها تتعامل أيضاً مع هذا الموضوع لكن بصورة غير مباشرة وسرية، خصوصاً فيما يتعلق بالهجمات السيبرانية وقرصنة المواقع الفلسطينية والمؤيدة لها، والتي سنخصص لها مقالاً تفصيلياً لاحقاً.

رابعاً: نشاط هذا الفريق الإعلامي لا يتركز على الأحداث التي تجري في غزة فقط، بل هي، من وجهة نظرهم، حرب فكرية تجري في كل أرجاء العالم، وترتبط بالسردية الإسرائيلية التي تسعى هذه الجهات لإيصالها للعالم والمجتمع الدولي لتسويق ما يجري حالياً في غزة من عمليات حربية وفقا لرؤيتهم، ولذلك وجدنا الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ يقول: هذه ليست مجرد حرب بين ‏إسرائيل وحماس، ‏بل ان تلك الحرب تهدف، وبكل صدق، ‏إلى إنقاذ الحضارة الغربية وقيمها!

وفي هذا التصريح، الذي يحمل ابعاداً استجدائية عاطفية من جهة، وتضليلية مخادعة من جهة أخرى، يتضح أمامنا بصورة جلية ما تفكر فيه إسرائيل وما تحاول الترويج له، وجر العالم لمستنقعه في حربها مع حركة حماس وضد الشعب الفلسطيني.

خامساً: تركز الرسائل الإسرائيلية على أهم المنصات العالمية وهي فيسبوك وانستغرام وتيك توك ومنصة إكس، ويتم تنسيق النشر، في حساباتهم لدى هذه المنصات، مع جميع السفارات والقنصليات الإسرائيلية في الخارج والتي يتجاوز عددها مئة بعثة تقوم باستلام المواد المختلفة وتوزعها على الجماهير المحلية في تلك البلاد وبحسب ثقافات كل بلد.

إقرأ أيضاً: قواعد التهنئة في العصر الرقمي

سادساً: تم اختيار ست لغات، هي الإنجليزية والعبرية والعربية والفارسية والإسبانية والروسية، للنشر في هذه المنصات الرقمية لإيصال الرسائل لأكبر قدر ممكن من الناس الناطقين بهذه اللغات. واختيار هذه اللغات لم يكن عفوياً، فاللغة العربية هي لغة المنطقة التي يجري فيها الصراع، كما أن الإسرائيليين يعتقدون انها لغة الدول التي عقدت معها اتفاقية إبراهيم، لذلك تحاول إيصال وجهة نظرها لهم بلغتهم التي يفهمونها، وأما اللغة الاسبانية فهي لغة أكثر من 30 دولة خصوصاً في أميركا اللاتينية، التي لا تقرأ الاخبار بغير هذه اللغة.

وبالنسبة إلى اللغة الفارسية، فالكيان الإسرائيلي يعتقد أن إيران تتابع بدقة ما يقومون بنشره، ولاشك بان اللغة الروسية مهمة جداً بسبب الدول الناطقة بها، فضلاً عن اللغة الإنكليزية العالمية.

سابعاً: قامت إسرائيل بمخاطبة الشركات التي تدير مواقع التواصل من اجل الضغط عليها واتخاذ مواقف وقرارات أكثر صرامة فيما يتعلق بالمنشورات التي تدعم حماس وحركات المقاومة الفلسطينية، كما انها حاولت ربط أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر) بالهولكوست، واعتبار الأولى جزءاً من الثانية أو امتداداً لها، وذلك لإيهام الشركات واجبارها من اجل تشديد الرقابة على المحتوى الفلسطيني، وهو ما حصل على نحو واضح جداً فيما يتعلق بالعديد من المنشورات التي تتحدث عن أحداث غزة أو تدعم الموقف الفلسطيني في هذه الحرب.

ثامناً: تعتمد الاستراتيجية الإسرائيلية أيضاً على النشر في المنصات الرقمية على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، وذلك من أجل مراعاة توقيت الدول المختلفة، حيث هناك مناطق زمنية مختلفة، والمتابع يريد أن يعرف ما يجري ويحصل في هذه الحرب، عن طريق إجابات سريعة ومباشرة و عاجلة ، قبل أن يسمع الرواية من مصدر آخر.

تاسعاً: اللعب على وتر الخلاف بين بعض الدول العربية وإيران، وذلك من خلال نشر مواد، كاريكاتور مثلاً، يُظهر تحكم إيران بحماس والحوثيين وحزب الله، ما يدفع للتعليق عليها بشكل يصب في مصلحة إسرائيل في هذا الصراع، وهو المنهج الذي يريد أن يجعل من القضية الفلسطينية "ذات بعد واحد فقط" مرتبطة بسلوكيات وقرارات حركات وفصائل فلسطينية تحركها ايران بدوافع سياسية" ما يجرد القضية الفلسطينية من ابعادها الدينية والوطنية والقومية والإنسانية وغيرها من الامتدادات التي ارتبطت بهذه القضية منذ عشرات السنين.

إقرأ أيضاً: حظر تيك توك ... صدامات السياسة والاقتصاد والاخلاق!

عاشراً: يراقب الإعلام الرقمي الإسرائيلي بعض التغريدات والكتابات التي تُنشر من قبل بعض الشخصيات الإعلامية والمؤثرين العرب، والتي فحواها ضد حماس وتهاجم إيران وتجعلها المحرك الأساسي للأولى، فيقومون بإعادة نشرها والترويج لها من أجل التأثير على الجمهور العربي والإسلامي وايهامه بان هنالك توجه عام وشامل ضد هذه الأطراف المستهدفة لخلط أوراق القضية الفلسطينية.

إنَّ الرؤية الرقمية الإسرائيلية في التعريف بافكارها في الحروب والسلم تندرج ضمن منهجها المعروف بمصطلح hasbara الذي يشير، في عمومه، إلى استراتيجية إعلامية شاملة تستخدمها إسرائيل للتواصل مع الجماهير الأجنبية وشرح مواقفها وتوضيح سياساتها والترويج لها، وهي تنفق ملايين الدولارات من أجل تنفيذ خطتها هذه لإدراكها التام أهمية الاعلام بصورة عامة، ونموذجه الرقمي، بصورة خاصة، في القيام بهذا الدور وبث دعايتها، والتسويق لخطابها المنسجم مع مصالحها الخاصة.