لمناسبة رحيل فيلسوف النقد الادبي جاك دريدا

لا يحس بقيمة التفكيك.. الا المبدعون في اعادة البناء!!

"اذا كان التفكيك مدمر حقا.. فليدمر ما شاء من الابنية القديمة المشوهة.. من اجل ان نعيد البناء من جديد.. " جاك دريدا

كما هو حال هذا العصر الذي ازدادت فيه التناقضات كثيرا، فان منتجاته التي تفيض بجملة تناقضاتها المريعة التي تبدو واضحة اشد الوضوح لكل من يحاول السعي ذهنيا وتجريبيا وبنيويا ان يفككها تفكيكا نقديا ماهرا بحيث لا يمكنه الابتعاد ابدا عن المنهج النقدي الذي كرسه جاك دريدا عند نهايات القرن العشرين. لقد طارت شهرة دريدا في الافاق ليس لكونه فيلسوفا او ولا مؤرخا ولا مفكرا.. بل لأنه ناقدا غدت له مهاراته الذكية جدا قبل افكاره النقدية النظرية التي نجح في تسويقها تطبيقيا بنفسه من خلال مقارباته ومدلولاته المتنوعة والتي جعلها منسجمة مع طبيعة هذا العصر الذي نعايشه بكل الوانه وتعقيداته السريالية التي استفاد منها كثيرا في جميع مخلوقاته النقدية، وهي منتجات المشروع الذي تبنى نشره في الاوساط العالمية التي اعجبت بعض نخبها الادبية والفكرية ليس بافكار دريدا أو خطابه حسب، بل بتطبيقاته التي تحتشد فيها ركامات من الدلالات القوية التي وصفت بكونها عذراء بكر لم يتلمسها احد من قبل!!
لقد ارسى دريدا في الحقيقة فلسفة راسخة في الفكر العالمي الحديث، فضلا عن الاليات المنهجية التي نجح في استخدامها نجاحا باهرا، والتي شكلت قراءاتها تفاعلات عديدة في الذاكرة النقدية وتسمت بأسمه. ويبدو واضحا، كم كان تأثير عدة مناهج أساسية معاصرة في تفكير دريدا وآلياته الحيوية، ومنها : البنيوية والفيلولوجيا والاركيولوجيا والتواريخ الكلاسيكية والكتابات السياسية والابداعات الادبية.. كما واستلهم الرجل من الادبيات اللاهوتية جملة من العناصر التي فتحت عيونه على ما يمكن تهشيمه وليس تفكيكه فقط! وبالرغم من فلسفته التي لم يتأثر بها الا القلة من الدارسين والمختصين في العالم، كان هناك من وقف ضدها وضد صاحبها.. واذكر ان جامعة كيمبردج رشحت اسم جاك دريدا للدكتوراه في الفلسفة، فاعترض مختصون وعلماء على ذلك ووصفوا دريدا بأن لا علاقة له بالفلسفة مطلقا، وانه مجرد عبثي لا يفهم ما يقول!!

لقد استفدت حقا من نظريته في التفكيك
اعترف بأنني استفدت جدا، ولكن مؤخرا جدا من منهج دريدا في التفكيك النقدي للنصوص وكنت قد تأثرت جدا بمحاضرته التي القاها في قسم فلسفة اللغة بجامعة ريدنك عندما حضر استاذا زائرا اليها من فرنسا وقد زار كلية سانت انتوني في جامعة اكسفورد العام 1977 ولكنه لم يلق اية محاضرات فيها.. لم يكن مشهورا وقت ذاك وكان شابا كثيف الشعر له نظرات حادة بطيىء الكلام، يفكر طويلا قبل ان يتكلم.. يتأمل طويلا في نوعية الاسئلة التي تلقى عليه، ولكنه كان يعتني بمجموعة من الافكار التي طور فيها مشروعه.. كان يلقي محاضرته التي حضرها عدد لا بأس به من الاساتذة والطلبة في الدراسات العليا.. يلقيها بالانكليزية الملحونة ولكن استخدم جملة من المصطلحات اللاتينية التي يشترك فيها الانكليز مع الفرنسيين في استخدامهم اياها. كان اكثر شبابا وهو متأثر جدا بفلسفة ميشال فوكو برغم نقداته التفكيكية للعديد من نصوص فوكو، ولقد جعل بعض دور النشر البريطانية تتراكض لترجمة اعمال ميشال فوكو.. ولعل اهم ما اكد عليه دريدا موضوع اللسانيات والمصطلحات. واذكر ان مشاحنة دارت ضد افكار دريدا ومنها تقداته المريرة في تفكيكه للمنهج الامبريقي والمؤسسة الجامعية ( وكان يعني بها الاكاديمية البريطانية التقليدية القديمة ) التي لم تؤسس على حد علم جاك دريدا بوصفه اياها «جامعة مناوئة للعقل»، مستنتجا بأن هذا ما جعل مثل هذه المؤسسة وكل مؤسسة اكاديمية عقيمة، لا غاية لها إلا نزعتها الامبريقية EMPIRIQUE التي يسمها خطابها المتعالي الذي لا ينتهي الا الى نتائج عابرة! وهذا ما جعلنا ننتقده جدا، وبرغم ما علق في تفكيرنا من الادوات التي استخدمها، الا انني بالذات كان تفكيري منشغلا في نظريات من نوع آخر!
حوار بيننا نحن الطلبة وبينه حول ما بعد الحداثة
كان كلامه اشبه بالطلاسم التي لا يفهمها الا المختصون بعلم اللغة وعلم الصوت.. وكنا نحن الثلاثة طالبان وطالبة يحضران في فلسفة التاريخ الحديث.. لم تكن امكانيتي اللغوية قادرة على استيعاب مصطلحات غاية في التعقيد.. ولم تعد قدرتي صالحة على الاستيعاب من لغو ما يقول به خصوصا وان اغلبه يتناقض مع ما كنا نتدارس من مناهج، اللهم باستثناء مقوم اساسي اكد عليه دريدا كثيرا هو التمركز والتموضع.. سأله زميلي ب كيمب الذي كان استاذنا المؤرخ الشهير البرت حوراني قد انهى اشرافه على اطروحته في سانت انتوني باكسفورد.. سأل دريدا عما يمكن ان ينفعنا تفكيك النص التاريخي.. ولقد سجلت في محفظتي الدراسية بعض النقاط التي اراها مهمة جدا بالنسبة لمنهج التفكيك التاريخي الذي قمت باتباعه في كتابي " تفكيك هيكل " الذي اصدرته العام 2000، واذكر ايضا انه اجاب على اسئلة طرحناها عليه وكنت برفقة كل من زميلي الالمانيين توماس لنك وسابينا دودنباخ عن مفاهيم لم يأخذها احد بنظر الاعتبار وقت ذاك.. ولكنها ستغدو ذات اهمية لا تبارى في عمليات النقد في اللغة والادب خصوصا.. وهي نفسها التي يمكن ان تساعد جدا في تحقيق النص التاريخي بعد اخضاعه للتفكيك الذي يريده دريدا اساسا! لقد شعرت بأهمية ما سجلناه عنه ولكن في السنوات الاخيرة وبعد ان مررنا بتجارب منهاجية ومعرفية وفلسفية عديدة. ولكن لابد لي ان اقول بأن من لم يمتلك القدرة على قراءة النص قراءة داخلية في اعماقه واستكشاف تمركزاته لتبيان حقيقة قائله، فلا يغامر ابدا في قراءة دريدا ويضيّع وقته!

جاك دريدا، ونظرية التفكيك لما بعد الحداثة..
تعد منهاجية التفكيك deconstruction أهم حركة مابعد بنيوية في كتابة النقد الأدبي فضلاً عن كونها اكبر حركة أثارت جدلا حتى اليوم. ولقد شهدنا ونخبة من الزملاء الذين جايلوا الربع الاخير من القرن العشرين اكبر حالة من التناقض بين موجات الاعجاب واضدادها من النفور ، ازاء هذا المنهج الذي كان ولم يزل في عداد نظرية في النقد الأدبي وخصوصا في السنوات الأخيرة، فمن ناحية نجد أن بعض أعمدة النقد مثل ج.هيليس ميلر وبول دي مان وجيفري هارتمن وهارولد بلوم)، هم رواد التفكيك على الصعيدين النظري والتطبيقي على الرغم من تباين أسلوبهم وحماسهم، ومن ناحية أخرى نجد أن الكثير من النقاد الذين ينضوون تحت خانة النقد التقليدي يبدون سخطهم من التفكيك الذي يعدوه سخيفاً وشريراً ومدمراً. ولم يخل أي مركز فكري في أوروبا وأمريكا من الجدل في قيمة هذه النظرية الجديدة في النقد.‏
ويمكن القول أن النظرية التفكيكية بحاجة إلى الكثير من التحليلات الجديدة وأن أية محاولة يقوم بها أي ناقد يحاول تحليل هذه النظرية لا تحتاج إلى التعريف بالتفكيك بالضرورة لأن مثل هذه النظرية المعقدة والشائكة تمتنع عن التعريف. وعلى العكس من ذلك بإمكان المرء محاولة تفسير المصطلحات الأساسية التي شكلها دريدا لتدمير النقد التقليدي وتسهيل فعل التفكيك... وهذه هي الخطوة الأولى التي سأقوم بها هنا، وسأنوي بعد وصف وتحليل المصطلحات التي جاء بها دريدا الإجابة عن السؤال عن الكيفية التي يتمكن بها التفكيك من إعادة توجيه النقد الأدبي، وأقول من باب حيادي بأن ما وصف بالسخف هو ليس كذلك وأن للتفكيك مضامين روحية.‏
لقد خدمتني افكار وكتابات جاك دريدا في السنوات الاخيرة، وعدت الى منهجه اتدارسه واتوقف عند ابرز محطاته التي تسعفني حقا في قراءة النص مع متابعتي لما يكتب ضد منهجه اذ اشاع بعض خصومه انه مدمر للنص! فهل أن التفكيك مدمر حقاً؟ ولعل أفضل موضع ننطلق منه لتحقيق غايتنا في الاجابة هو كتابه "في علم الكتابة" الذي يعد لسان التفكيك... العمل البارز الذي أنجزه جاك دريدا، الفيلسوف والناقد الفرنسي. وأنني أعتقد أن البحث الذي يتقصى دريدا ونظريته في التفكيك تواجهه عقبتان رئيستان، الأولى أوجدها أسلوب دريدا نفسه المتسم بإثارة الحيرة عن مصطلحاته ومفاهيمه، أما الثانية فهي سلسلة الآراء النقدية التي تعد تأويلات interpretations غير وافية أو سوء تأويلات misinterpretations ، محتملة على الرغم من الضوء الذي تسلطه على بعض المفاهيم الصعبة التي شكلها دريدا، وسوف أعمل أنا على توثيق بعض هذه التعليقات النقدية قبل الشروع بتقديم وصفي وتقويمي لمفاهيم التفكيك.‏
ومن الجدير بالذكر أن "الكتابة" و"الكلام" كلمتان محوريتان يمكن أن يبدأ بهما فهمنا. وتتمع هاتان الكلمتان بدلالة خاصة في المفاهيم التقليدية للغة، إذ أن هذه المفاهيم تنص على أسبقية الكلام وهناك عدد من النقاد يعتقد أن التفكيك الذي جاء به دريدا يعد انتقالاً من التمركز حول العقل إلى التمركز حول الكتابة، وهذه ليست ملاحظة بريئة ولابد من التعبير عن دلالتها قبل الاسترسال في التفسير، وأنا أرى أن أفضل طريقة لتوضيح هذه المسألة هي محاولة تبسيط الأمر من خلال القياس.‏ وقد أطلق دريدا تسمية "المفهوم السوقي للكتابة" على مفهوم الكتابة الذي أهمله مفهوم اللغة التقليدي واللسانيات الحديثة، وهكذا أصبح نقد قصيدة ما اكتشافاً لمعناها.. ذلك المعنى الذي يعد فكرة أو مفهوماً يمكن ربطه بفكرة أخرى، وسوف تتجمع عملية ربط الأفكار بعضها بالآخر في فهمنا للكينونة المتعالية.

من هو جاك دريدا؟
انه رائد المدرسة التفكيكية في النقد ويقال انه يهودي فرنسي من اصل جزائري، اشتهر في السنوات العشر الاخيرة شهرة عالمية بعد ان كان له وزنه العلمي في الاوساط العلمية والفلسفية الاوربية. وتعتبر مدرسته واحدة من اهم المدارس عند بعض النقاد والباحثين. ان الفيلسوف جاك دريدا يبدو وكأنه فيلسوف من نوع خاص، فهو مراوغ في لغته ولكن تحكمه الدقة المتناهية في فهم المصطلحات والوعي بالمفاهيم، وهو يهيم بمنهج اسماه بالتفكيك الذي يشبه الى حد كبير البعثرة ومحاولة اعادة التركيب من جديد. ويرى العديد من دارسيه انه يجد لذته بنسف الوحدة التي تجمع الادب والفلسفة والسياسة، كاقانيم ثلاثة والتي لا تنفصل عنده إلا بالوهم، ولقد شبه الحالة بما يحكيه مجنون من لغة متمردة يؤسسها ليقوض عالم اخر بكل عماراته التي تأسست على مركزية «العقل» في كافة ميادين الكتابة. وهذا ما دفع بجاك دريدا لأن يكتب من عمق جنونه، هوية لا تشبه الثوابت، وكتابة لا تشبه العهود. لقد نعت جاك دريدا منذ سنوات خلت بشتى التهم الخطيرة التي تجعله على هامش الاخلاق ويسعده ذلك جدا لأنه يفهم بأن منهجه هو الوحيد الذي يفكك ولكن مناهج غيره لا يمكنها ان تفككه هو ذاته!
لقد كان مؤلفه: «علم الكتابة» انطلاقة مهمتها إزاحة الطبقات المتراكمة الواحدة بعد الاخرى دون توقف، ودون وضع حد لعملية التفكيك لكثافة ما يعلق بالنص من ترسبات لأرض بكر. فدريدا لا يثبت معنى إلا لينقضه، ولا يهتدي الى مركز او مسار إلا ليحوله من مكانه وليحيد به عن خطه وينقله من قطبه، في عملية لا تني عن الانحراف، وتبعيد الشيء عن ذاته وتشظيته حتى تضيع هويته خلف تراكمات من التحولات والتحويلات لا حد لها، بحيث تصبح غاية دريدا المسماة منهجية «قوة تخريبية» لا تلمس شيئاً إلا لتنسف مسلماته وتفجره شظايا.‏ من هنا تنبع صعوبة تتبع فكر دريدا وتنظيم محاوره في وحدة جامعة.

ما الذي استفدته حقا من محاضرة دريدا القديمة؟
يبدو لي ان محاضرته التي القاها العام 1977 في جامعة اكسفورد وهي نفسها التي القاها في جامعة ردنك بانكلترا وقد كنت في الاثنتين معا.. كانت نواة كتابه " علم الكتابة "، وخصوصا عندما قارنت الركائز والمنطلقات التي احتواها هذا الكتاب القيم الذي يضم جملة من الاليات والاشياء والمعاني.. انه صقل حقيقي لموهبة النقد المتقدمة التي لابد ان تعالج فيها كل النصوص، وخصوصا التاريخية منها ثم السياسية.. ان مجرد تطبيق آليات دريدا على نصوصنا التي ننتجها منذ مئات السنين، فسوف تثمر هذه العملية المعقدة والصعبة عن نتائج خطيرة جدا.. خصوصا وان العرب مغرمون اليوم بالتأويل والشعوذة والاسطرة والانشائيات والمفبركات والاكاذيب وشحن الخطابات بالعواطف وترديد الشعارات غير الواقعية والجنونية..!! ويمكنني تلخيص اهم الركائز التي اعتنى بها دريدا في منهج التفكيك :
اولا : كشف التفكيك عن الكتابة التي تقوم على الاسطورة والكذب لا على العلم والحقيقة. فالكتابة هي نتاج الصدفة الاعتباطية، «والمعرفة المدونة تعني ترديد المدونات دون معرفتها، ودون معرفة اصولها» لأنها نشأت من الاسطورة كما يقول سقراط وفيدروس وأفلاطون..
ثانيا : وعملية تفكيك النص في الكتابة عند دريدا «ضرورية ولكن كاذبة» كما «تصبح التفكيكية مأزقاً منطقياً لأن الفاعل الكاتب هو ذات متعددة ومتناقضة كما هو النص متعدد ومتناقض، وهنا تستوجب الاحالة الدائمة لحضور المعنى مما يفتت الهوية الدلالية.‏
ثالثا : يؤكد التفكيك ليس على كشف أوهام فحسب، بل استكشاف " الفبركة" التي يمارسها فنانون في فن الكتابة.. ومن خلالها يوهمون الناس بكينونة الحقائق الكاذبة، وخصوصا في المسائل الخطيرة التي يتعطش لمعرفتها الناس ليس إلا. انها تمثل فبركات مهولة تشير إلى الفشل الاخلاقي المريع.. ( وهذا ما تعاني منه ادبياتنا العربية المعاصرة مع الاسف ).
ان السؤال الذي يفرض نفسه هو: هل يستمر الباحثون في السير على خطا مثل هذه الدراسات النقدية الجادة ام ستبقى النمطية المكرورة هي المسيطرة على الخطاب النقدي العربي؟‏
واخيرا، ها قد رحل اليوم فيلسوف النقد الادبي المعاصر جاك دريدا مخلفا من ورائه ثراء متميزا في النظرية التفكيكية وتطبيقها.. رحل عن هذه الحياة ولكن سيبقى ذكره مستمرا لآجال طوال وسيستفيد منه طلبة العلم والبحث والمناهج والنقد استفادة قصوى.. وستشغل نظريته التفكيكية حيزا كبيرا في تاريخ الثقافة البشرية مخلدة باسمه فالى ذكراه ازجى كلماتي الطيبة فلقد كان محاضرا بارعا ومنظرا عالي المستوى وناقدا متميزا شغل التفكير الادبي والنقدي على ربع قرن وهو عصارة عظمة الثقافة الحية في القرن العشرين.


( فصلة من كتاب الدكتور سيّار الجميل : نسوة ورجال : ذكريات شاهد الرؤية – قيد النشر -)