في عيد صاحبة الجلالة العراقية ومهنة السعادة !!
139 عامًا... وما زالت الزوراء خضراء بلا تقاليد

عبد الجبار العتابي من بغداد: ها هو هلال عيد الصحافة العراقية .. يهل، نراه واضحًا من ثنايا الخامس عشر من حزيران / يونيو ، يبزغ من بين الغمام الكثيف والكونكريت الهابط من اقدارنا ، نراه يقطر دمًا على أوراقنا وأقلامنا وطموحاتنا المستقبلية ، يطل منبهرا بما نحن عليه ومندهشا من احوالنا التي تغيرت ومن اعدادنا التي لا حصر لها، انه يبزغ من بين عشرات العناوين التي تحملها بناته الكثيرات على اختلاف اشكالهن ورؤاهن وقيامهن وقعودهن ، وألوان عيونهن واطوال انوفهن وجمال شفاههن وفساتينهن وفصاحة ألسنتهن من سواها ، والملابس التي يلبسنها والحلي التي يتحلين بها ، وكل واحدة لها من لها ووراءها من ورائها ، نراه يطل من الفضاءات المفتوحة على اتساعها والرياح تهب عليها من جميع الجهات ، ها هو الهلال... نلمح نحن الصحافيون العراقيون... وننظر اليه ونكاد نبتسم له ، نبتسم وسرعان ما لا نبتسم ، ها هو يطل .. وذاكرتنا في شبه نسيان له ، وقد اخذت منا دوامة الاحداث ما اخذت ، وما كان علي وانا اتطلع الى هلال مهنة المتاعب ، الا ان اتأمل وجه السنوات الخمس التي مرت من عمر الصحافة العراقية ، وكيف ان مع اول التغيير هبت الصحف بالعشرات لتملأ العراق ، تجاوزت في اعدادها كل ما هومتوقع ، وكيف ان هذا العدد سرعان ما بدأ بالتناقص ليظل هذا العدد البسيط .

قال لي احد الزملاء الصحافيين : هل حين ستكتب عن عيد الصحافة .. ستمتدح ام تذم ؟ قلت له سأسالك هذا السؤال وأجب عنه ، قال : هناك سلبيات كثيرة وهي وهي مما يستحق الذم ، وهناك ايجابيات لا بد ان نمتدحها ، ولكن يا زميلي السلبيات تغطي الايجابيات ، قلت له : اكثر ما يحزنني ان الصحافة العراقية تقطع جذورها دائما ، كل حدث سياسي في البلاد يلغي ما قبله ، فالصحف تذهب مع من ذهب ، وليس هنالك من تواصل واستمرارية ، فالصحف التي كانت قبل سقوط النظام كلها سقطت معه ، وكأن تاريخها مرتبط به ، على الرغم من ان هناك صحف اقدم منه ، وانتهى ما كان ، فيما نرى في كل دول العالم ان الانظمة تتغير وتظل الصحف شاخصة لا تغيرها الاحداث ولا تلغيها المتغيرات .

قلت لزميلي وانا اتريث قليلا : في عيد الصحافة العراقية .. لا بد لي قبل اي شيء ان اقف اجلالاً للزملاء من الشهداء الذين قضوا لانهم (صحفيون) واستذكر من بينهم نقيب الصحفيين شهاب التميمي الذي اغتالته الايادي التي تكره القلم والورق ، وقفنا معًا وقرأنا سورة الفاتحة على ارواح الراحلين .

ها هو هلال العيد .. يهل ، واجلس قبالته لأحكي له حكاياتنا كلها ، حكايات الفرح والاسى ، والفوضى والصخب ، والحرية واللاحرية ، واشياء كثيرة تركض في الذاكرة وتتدحرج في الوجدان وتتأرجح في البال ، ولكن علي ان اقرأ في اوراق العيد الذي تحلق في سمائه كلمة (الزوراء) لتملأ الامكنة وتنثر في العيون بهاءاتها ، هذه الكلمة هي اسم اول جريدة عراقية صدر عددها الاول في (15/6/ 1869) ، والذ اصبح هذا التاريخ هو عيد الصحافة العراقية ، الزوراء التي توقفت عن الصدور بعد (48) عاما من الصدور صدر منها (2606) اعداد ، واورقت وازهرت العديد من الصحف التي نمت وترعرعت في ظلها وقد صارت الزوراء شجرة كبيرة خضراء ومثمرة ، وحين نتلمس هيئتها الاولى التي ظهرت فيها نجدها تختلف كليا عما عليه الصحافة الان حيث حيث لا صور ولا الوان ، وحيث الحروف ، ترتبط ببعضها بترتيب يدوي .

نحن الان في العراق على مسافة (139) عامًا من البذرة الاولى ، انها مسافة قريبة ، قياسًا للدول الاخرى ، لكننا وفقاً للظروف السابقة علينا ان نرفع اكفنا ثناء لها ، نحن الان في صحافة جديدة ، اغلبها صحافة معارضة ، من الغريب ان كل ما تم تأسيسه على مر السنوات الطويلة جدا لم يبق منه شيء ، ليست هنالك صحيفة لها تاريخ طويل كالصحف العربية كالاهرام المصرية مثلا التي عاشت مع انظمة ملكية وجمهورية ولم يتعرض لها احد .

يقول زميل صحافي ، فضل عدم ذكر اسمه : من الغريب ان الصحافة العراقية التي كانت تعيش اسوأ عصورها في زمن النظام السابق ، اصبحت تعيش الانفلات بشكل مثير ، فلا ضوابط ولا تقاليد صحافية وابوابها فتحت لمن يشاء ، دخل الصحافة خلال السنوات الخمس الماضية اكثر مما دخلها على مدى حياتها ، ولو فتشت لوجدت العجب ، حيث الاغلبية لا علاقة لهم بالصحافة ولا بعرفون الفرق بين (ان واخواتها) و(وكان واخواتها) ،هؤلاء جاءوا من مهن لا علاقة لها بالكتابة ، وبعضهم اميون ، المهم وجدوا فسحة وصاروا يكتبون حسب العلاقة التي تربطهم بصاحب المطبوع ، اسماء نكرات اصبحت تتبوأ مناصب رئيس تحرير ومدير تحرير وسكرتير تحرير ، وهي لاتستحق ان تجلس على باب احد هؤلاء ، واضاف : اما نقابة الصحافيين فلا اعتراض لديها ، واحيانا اشعر انها مغلوبة على امرها ، فالاوامر العليا تأتيها لتمنح هذا وذاك العضوية وان لم يكن لهما شأن فيها حتى وصل العدد الى ما يقارب العشرة آلاف صحفي !! ، نقابة الصحفيين في واد والصحافة والصحافيون في واد عميق اخر .
وتوقف عن الكلام وبعد قليل قال : يعجبني ان تكون الصحافة حرة وان يكون عدد الصحافيين كبيرًا ولكن لا يجب ان يأتي هؤلاء من الشارع بلا ثقافة ولا التزام ، ولا يجب ان لاتراعي الصحافة ضوابط المهنة وشرفها ، ولا يعجبني ان تتحول الصحفي الى مطية للحزب الذي يمتلك الصحفي تملي عليه رباتها واملاءاتها وهو صاغر لا يقوى على ان لا يقول لا او يدافع عن مبادئه واخلاقيات المهنة .

اتصلت بزميل اخر وطلبته منه ان يقول شيئا لمناسبة عيد الصحافة العراقية ، اعتذر في البداية ، ولكنه بعد ساعة اتصل بي وقال سأقول رأيي وتنشره كما هو ، قلت له : لك ذلك ، قال : عديدة هي الصحف العراقية عندما انظر اليها كل يوم وانا امر من بائعي الصحف الذين يفترشون الارصفة ، ارى اغلبها يرتدي الاخبار ذاتها ويتقلدها في صدر صفحاته ، ليس هنالك صحفيون يا صديقي الا القليل ، اصبح الانترنت هو الوسيلة الفضلى ، اصبح للاسف من هب ودب يمر من باب الصحافة ويدخله بدون استئذان ، اعرف الكثيرين ممن لاعلاقة لهم بالصحافة ولا عمرهم قرأوا جريدة تحولوا في ليلة وضحاهم الى كبار الصحفيين واسماؤهم صارت رنانة ، وهؤلاء ليست الصحافة همهم بل اغراض شخصية وعلاقات وسفر واشياء اخرى .

في الاخير قلت لزميلة صحفية : كيف احوال الصحافة معك ؟ قالت : حدث ولا حرج ، لم يعد هنالك من حرج ، ربما لا تصدق انني لا امارس هوايتي الصحفية كما يجب ، ليس هنالك من احترام ، الكل يريد ان (يحضن) ولا (يحتضن) ، من لاارد على ابتسامته بأحسن منها يرفضني ، من لا ابادله المشاعر يعطيني (كارت) احمر كما في كرة القدم ، ابحث عن الصحفيات ؟ ، سوف لاتجد الا عددا قليلا منهن ، ولا اريد ان اتحدث عن احوالهن فهي اسوأ ، رئيس التحرير بيده يصنع الصحيفة من سواها ، هو الذي يمنحها الشارة ، ان كانت نكرة فهو يمنحها السمو ويفتح لها صفحات الجريدة وتكتب ما تشاء ، وبأمكانه ان يقتل الروح المبدعة حين يطردها او يرفضها لانها لم تمنحه ما يريد منها ، والحكايات عديدة و (خليني ساكتة) .

وخليتها ساكتة .. ، وها انذا الان اقف امام هلال الصحافة ، اشعر بالحزن الكبير على ضياع التقاليد ، وقد اصبحت الصحافة مهنة عادية ، والصحفي فيها عاديا الا من وجد لنفسه نفوذا ، وكما قالت زميلتي (خليها سكتة) .