في الذكرى الثامنة عشرة لغزو العراق للكويت:
حصاده إحباط وضياع للثروات والمستقبل والعمر

عبد الجبار العتابي من بغداد: قلت لصاحبي: أقبل شهر آب !!، فالتفت إليّ وعلى وجهه ارتسمت علامات استغراب ، وبعد هنيهات ابتسم ثم قال : من المؤكد أنك ستكتب عن يوم 8/8/1988 ، إبتسمت ردا

أحد آبار النفط الكويتية التي احترقت أثناء الغزو
على ابتسامته وقلت له: بل سأكتب عن نقيضه ، أطرق قليلا ثم قال : إي والله .. إنه نقيضه بل أسوأ بكثير ، كنا قد فرحنا بيوم انتهاء الحرب الذي كان في (آب 1988) لكن (آب 1990) عاد الينا بخبر سيئ جدا ، خطف تلك الفرحة وقتلها ، وزرع في نفوسنا أحزانا لا تنتهي ، وجعلنا نكره (آب) ، الذي أمطرت فيه ذات يوم الدنيا فرحا عظيما ، صار آب لا يذكرنا بيوم انتهاء الحرب العراقية الإيرانية ، بل بغزو الكويت الذي بسببه كانت معاناتنا وكان دمارنا ودمار العراق ، كل حلاوة الثامن من آب ، أكلتها مرارة الثاني من آب ، وتأوه صاحبي .. ثم قال : والله قلبي .. يوجعني عندما أتذكر أو أتحدث في هذا الموضوع ، لا أريد أن أتحدث فيه ، أخشى أن تنفجر الحسرة في صدري وأموت ، فدعني و(شوف) غيري !!.

وفي الحقيقة .. ما مفاتحتي لصاحبي بالموضوع الا لأنني اعرف انه كان عسكريا في ذلك الوقت ، يوم الثاني من آب / اغسطس عام 1990 الذي غزا فيها صدام حسين دولة الكويت مع سبق الاصرار والترصد ، ذلك الغزو الذي ما زال يحرق الاخضر واليابس في العراق ، والذي كان نقطة الانعطافة التاريخية نحو الاسوأ ، ليس للعراق فحسب بل للمنطقة العربية والاسلامية كلها ، ذلك اليوم الذي عدنا فيه الى عصر الغزو والجاهلية ، والذي هو الان الى اليوم جاثم على صدورنا ، فكل ما حدث ويحدث طوال الـ (18) سنة الماضية هو بسبب يوم الثاني من آب وليس غيره لانه جر الويلات على العراق وسحقه واوصله الى الحالة التي هو فيها الان .

رغبت ان يتحدث صاحبي عما ظل في ذاكرته او قلبه من ذلك اليوم بعد 18 عاما من حدوثه وهو الذي دخل الكويت مع اول الداخلين اليها ، فكنت اشعر من كلامه مدى الحزن الذي في نفسه مثل غيره من العراقيين الذين فاجأهم الغزو .

عدت استفز صاحبي الذي عرف ما أريده فقال : هل تصدق ان الجيش العراقي دخل الكويت وهو لايعلم شيئا ؟ ، قلت له : هذه المعلومة ليست جديدة ، لكنه استطرد قائلا : كنا نصعد سيارات عسكرية انطلقت بنا ، لا نعلم الى اين ولم يكن احد يعرف الى اين المسير ، قيل إننا سنجري تمارين عسكرية ، كان ذلك ليلا ، وفي الصباح نزلنا من السيارات لنجد انفسنا في مدينة لا نعرفها ، كانت مدينة (الجهراء) الكويتية ، استغربنا ومن ثم علمنا ان ما حدث (احتلال) وضحكنا كثيرا ، انا من ناحيتي لم اطلق رصاصة واحدة ، ولكنني رأيت ما يقشعر له الجسد !! ، رأيت تدميرا كاملا وسرقة كبيرة ، كنت اجهل ما يحدث ، كنت اقول : هذا ليس الجيش العراقي الذي ننتمي له ، صاحب العقيدة والملتزم بقضاياه العربية والاسلامية ، سمعت الكثير عن مبررات الاحتلال والغزو لكنها غير مقنعة ، لكنني اعتقد ان السبب هو ان عقدة في داخل نفس رئيس النظام ، ليس للمجنون ان يفعل ما فعل وليس العاقل ، لو فكر لحظة ما اقدم على ما اقدم عليه ، انها نوازع الشر وامراض الغطرسة والدكتاتورية البغيضة .

أحد تماثيل صدام حسين التي كانت تملأ الكويت أثناء الغزو
وتوقف صاحبي ليتنفس بعمق وقد شردت عيونه الى البعيد ، ثم عاد الى الحديث : دخلنا على الكويت والناس نيام ، لم يكن من مهمات الجيش العراقي غزو بلد شقيق ، كنت اشك في ان الجنود الذين كنت اراهم جنود عراقيون ، وحتى ضمن السياقات العسكرية لايمكن للجيش ان يدمر كل ما تقع عليه عيونه ، والاطرف ان صدام الذي قال ان الكويت محافظته التاسعة عشرة نقل كل ما فيها الى العراق وحرق آبار النفط ، انا كنت اشعر بالألم من ان الجيش العراقي يصبح اداة شريرة بيد شخص مغامر شرير ، انا اشعر ان غزو الكويت لعنة أصابت العراق والدليل هذه السنوات الطويلة التي عانينا فيها ما عانينا ، وأتألم لأنني اعرف ان الشعب العراقي والجيش العراقي لم يكونا راضيين عما كان يفعله رأس النظام والذين يدورون في دوائره السيئة.

كان علي وانا انظر الى وجه يوم الثاني من آب / اغسطس ، ان انظر ايضا الى وجوه الشباب العراقي الذين امتدت اليهم اضرار هذا اليوم لتأكل من طموحاتهم وسنواتهم واجسادهم وارواحهم ، وتجعلهم يعيشون حياة عسيرة ، ماذا يقول هؤلاء الذين هم الان في العقد الثاني من العمر عما فعله بهم ، قال احمد جليل : عمري الان 24 عاما ، لم اكن افهم شيئا من الغزو والاحتلال للكويت لكنني اعي أن أبي ذهب الى الحرب واستشهد فيها ، تركني انا وامي واختين اثنتين ، ولا اعرف كيف استطاعت امي ان تجعلنا نعيش في ذلك الوضع الصعب ، واضاف : هل يمكنني ان افهم من من تلك الحرب غير اليتم والحرمان والعيش السيئ ؟ ، انا بعد أن كبرت أتساءل لماذا احتل صدام الكويت ؟ ولا اجد جوابا مقنعا ، لكنني اعرف ان ابي مات فيها وان حياتنا من بعده اصبحت جحيما .

اما احسان كاظم فقال : كل المشاكل التي تحل على العراق هي بسبب رعونة الطاغية الذي بدل ان ينتبه الى شعبه بعد حرب طويلة مع ايران يذهب ليفكر بحرب اخرى ، كم هو ظالم ، لقد عشت أسوأ ايام حياتي خلال سنوات الحصار الجائر ، كنت صغيرا حينها ورأيت كيف اهلي وجيراني يعانون توفير لقمة العيش والامراض ، تركت الدراسة من اجل أن أساعد والدي ولم يكن هناك عمل كثير سوى اعمال البناء وجمع المخلفات من الشوارع وبيعها لاصحاب المصانع التي تعيد تصنيعها من جديد ، من المضحك ان حياتنا اصبحت مضحكة ، والسبب هو يوم الثاني من اب المشؤوم .

وقالت احلام جابر : فتحت عيني على الحياة وجدت اهلي يتحدثون عن غزو الكويت ، لا اعرف الى حد الان لماذا غزا صدام الكويت ؟ ، اعتقد من خلال فهمي فيما بعد ان صدام يكره الناس اينما كانوا سواء في العراق او الوطن العربي او العالم ، ويظهر انه نفسه لا يعرف ماذا يريد ، يحارب هذه الدولة ويغزو هذه الدولة ويتناطح مع اميركا ، ولا يهمه الشعب اذا جاع وتعرى واصابه المرض ، المهم انه ينفذ افكاره الجنونية التي اوهمه بعض العرب بصحتها فصفقوا له ، صدام اسوأ رئيس عراقي وعربي على مر العصور ، واتمنى بعد ان منّ الله علينا برحيله ان يفهم اخوتنا في الخليج تحديدا ان العراقيين اخوة لهم وعليهم ان يساعدوا العراق في محنته الحالية .

في النظر الى واقع ما تركه الثاني من آب على ملامح العراق كبلد يمكن قراءته في التغييرات الكثيرة التي جرت خلال السنوات الاولى حيث اهتزت على الفور العلاقات الاجتماعية وتأثر الاقتصاد العراقي بشكل كبير جعله يهبط الى اسوأ ما يمكن ان يشهده اقتصاد في العالم ، لاسيما بعد ان تخلى الدينار العراقي عن قيمته وراح يهرول ليضيع تماما ويصير مجرد ورقة عادية .

يقول باسم جميل انطون ، نائب رئيس اتحاد العمال العراقيين : بعد خروج العراق من حرب عبثية مع ايران ، كان الاقتصاد العراقي مثقلا بالديون والمشكلات الكثيرة في المؤسسات والبنى التحتية ، والمفروض بالنظام ان يعيد ترميم الاقتصاد ويعيد ماكنة الانتاج ، لكن للاسف الشديد بسبب قصر نظر النظام واستمرار سياسة المغامرات قادته الى مغامرة اخرى املا منه في حل مشكلاته المتفاقمة وكانت الكويت الطعم الذي ابتلعه بسرعة ، فبدل ان يحسن وضعه الاقتصادي دخل في مشاكل جديدة واستنزف طاقاته الاقتصادية وشل ماكنته وتم تسخير الالاف من قوى العمل في الريف والمدينة الى الالة العسكرية ما ادى الى تعطل حركة الانتاج واعتماد العراق على ما لديه من خزين ، ثم ان الحصار الذي شنته الولايات المتحدة وحلفاؤها على البلد فاقم المشكلة الاقتصادية بالاضافة الى توقف المورد الرئيس الذي هو الريع النفطي ومن ثم دخول مغامرة الحرب مع اميركا وحلفائها ، واستطرد : كل هذا فاقم المشكلات وعطّل المؤسسات الانتاجية الزراعية والصناعية والسياحية وتوقف ضخ النفط الى غاية نهاية الحرب ، وبدلا من وضع خطط للتدهور الحاصل في الاقتصاد لجأ الى مغامرة اخرى اسوأ من سابقتها وهي طبع العملة الورقية من دون ارصدة دائمة لها ما قاد الاقتصاد العراقي الى الركود التضخمي وبدأ الشلل يصيب كل مفاصل الاقتصاد العراقي.

باسم انطون قال ايضا حول العلاقة العراقية الخليجية الان : في الفترة الاخيرة بدأ الخليجيون يدركون ان المغامرة التي قام بها النظام السابق ليست فكرة الشعب العراقي وليس له اي مصلحة فيها وان العراق ارض خصبة للاستثمار ، ولا بد من الاقدام ودخول الساحة العراقية للاستفادة من فرص الاستثمار التي لا تتوفر في دول اخرى ، وكانت مبادرة الشيخ خليفة بن زايد حسنة وقد اسقط الديون عن العراق ، ونأمل من الاخوة الخليجيين ان يفعلوا الشيء ذاته ، فهم اخوتنا والاجدى في دخول الساحة العراقية للاستثمار.

واذا كان الوضع الاقتصادي يرتبط بالاوضاع الاخرى ، فالتأثير الذي تركه الثاني من آب في نفوس العراقيين كان كبيرا ، حيث زرع فيهم القلق والاحباط وكسر في دواخلهم الكبرياء حيث اصبحت صورتهم في العالم غير جيدة ، لاسيما ان الكثيرين هاجروا وعانوا كثيرا في الدول ، وحكاياتها اصبحت شائعة مثل حكايات الف ليلة وليلة .

يقول الباحث النفساني قيس ياسين : الكويت دولة عربية ، وحين حدث الغزو حدث اهتزاز في القيم والمواقف الموجودة بين العراق والكويت ودول الخليج والعرب ، لاسيما نحن نعيش في منطقة واحدة ، وجاء الغزو ليمثل ضربة للتراث العربي والاسلامي ، لقد كنا توا خارجين من حرب طاحنة مع ايران ومنهكين وليس لدينا اي استعداد ان نتحمل رسم اعادة خارطتنا النفسية ثانية ، ومررنا بعدة ادوار صعبة وتعرض المواطن العراقي الى ضربات شديدة كان حصادها القلق والاحباط وعدم استشراف المستقبل وضياع العمر ، لم تكن لدينا استراتيجية لمستقبل الشباب الذي عانى الكثير وكيف يمكن ان تنظم حياته ويخرج من حالة القلق التي كبرت دائرتها لديه .

واضاف : الانسان في اي بلد معزز ومكرم بالاقتصاد الذي لدى بلده وبالعلاقات الدولية والسياسة العالمية ، وليس ان نقول إن العراق عمره اكثر من اربعة الاف سنة ، عليك ان تكون عزيزا اقتصاديا لتحمي نفسك من الاحباط ومشاكل الحياة الاخرى ، المواطن العراقي قطعا تأثر بحدث غزو الكويت وعانى ما عاناه من صعوبات نفسية ، واتمنى من الاخوة في الخليج ان ينسوا صفحة الغزو ويحتضنوا العراق من جديد لانهم من نسيج واحد.