quot; أغازل الغربيين والليبراليين العرب بأطروحاتي الفكرية quot;- 3-
الترابي: لا نفعل سوى إنتظار منقذ من السماء

الترابي: هذا هو الفرق بين الفيصل وعبد الناصر

إيلاف: تنشر quot; إيلاف quot; في ما يأتي الحلقة الثالثة من quot; مكاشفات quot; للمفكر الإسلامي البارز والسياسي السوداني حسن الترابي، أدلى بها للكاتب الصحافي عبد العزيز محمد قاسم، المشرف على القسم الإسلامي في صحيفة quot;عكاظquot; السعودية، والذي خص بها quot; إيلاف quot;. ينكر الترابي في هذه الحلقة quot; انتظار المهدي ونزول عيسى وكل الرجاءات التي توهمها المسلمون بآثار موضوعة quot;، ويعرض لأسباب العداء النفسي الذي كان تاريخيا لدى السودانيين حيال مصر، متناولاً الإسلام والإشتراكية ومحاولاته لاجتذاب الليبراليين:

يا شيخ حسن، أتحدث لأول مرة معك، غير أنني تلمست شيئاً من النفور النفسي أو العداء النفسي لمصر والمصريين، ولا أخفيك حتى زملائي السودانيين بمشاربهم كافة أتلمس هذا النفور فيهم. هل هذا مترسخ في نفوسكم من أيام الاستعمار المصري البريطاني أم سبب النظرة الدونية التي ينظر بها الإخوان المصريون لكم؟ هلا أجليت لنا الأمر؟

- الغزو الأول في السودان الذي قضى على الدولة الإسلامية في سنار جاء باسم محمد علي باشا فجاءوا بالخبراء البريطانيين والنمساويين والطليان لأنهم من مصر لم يكونوا يحسنون الاستعمار وذلك لأن المسلمين ما كانوا يحسنون استعمار بعضهم بعضاً فجاءوا بهؤلاء الذين أدخلوا المسيحية إلى السودان ndash; والإدارة الحديثة وتمكنوا. ثم جاءت الثورة المهدية وطردتهم بينما كان العالم الإسلامي كله يركد ويركن.

ثم ما لبث البريطانيون أن ارتدوا على السودان بعد ذلك وحكموا مع المصريين فوقهم، والبريطانيون هم الذين كانوا يحكمون في المناصب العليا أما المصريون فكانوا أدوات السلطة والإدارة الدنيا، حتى في مصر كان البريطانيون هم الحكام الأعلون حقاً. فهم استخدموا المصريين ليكونوا الوجه القبيح في جمع الضرائب والضغط والأذى على الشعب بينما يقوم المفتش البريطاني بعيداً وعندما تستأنف إليه الأمور تُرجى منه الرحمة. وفي ثقافة مصر كان نهج استحقار سواد الجماهير عُرفاً قديماً.

هكذا جاء محمد علي من مصر والبريطانيون جاءوا مع زمرته من مصر. كأن الكفر كله ورد من مصر والشيوعية كذلك كأنها صدرت إلينا من مصر. فلا عجب أن نشأت نزعة عداء لمصر في رؤية السودانيين ولكني أميز بين الحكام المصريين وبين الشعب المصري- ورغم ذلك كان العرابي ثائراً مثلً المهدي حتى أن المهدي يُقال أنه لم يرد قتل غوردن باشا، بل كان يريد أن يأسره ليُجري تبادلاً بينه وبين العرابي الذي كان مسجوناً. وهناك أفواج كثيرة من الأسر المصرية هاجرت إلى السودان واستقرت في وسط السودان وتجنسوا الآن بالجنسية السودانية. فالعُقدة في العلاقات سياسية في وسط القيادات والعلاقة الشعبية طيبة.

هل أفهم من حديثك الطويل هذا أن النفور النفسي تلاشى، وذابت تلك النزعات العدائية في عصرنا الحاضر؟

- نوعاً ما، ولكن هذه العقدة استمرت حتى في الحركة الإسلامية فعندما دخلنا الجامعة بدأت تدبُّ إلينا الحركة الإسلامية من مصر والأدب الإسلامي أمثال كتب الغزالي ثم تطور بعد ذلك فجاءتنا كتب سيد قطب وغيره. وجاءتنا كذلك تيارات وكتب من باكستان وغيرها مثل كتب المودودي والندوي ومالك بن نبي. وكنا نقرأ هذه الكتب زاداً في ثقافة حركة التحرير الإسلامي ضد الشيوعيين الذين لم يكن لديهم تنظيم حزبي لأن السودان لم يستقل بعد وما كان ممكناً لهم أن يُقيموا حزباً حسب نظامهم العالمي. فجاء الأخوان المسلمون المصريون وزرعوا فرعاً للإخوان في السودان وظنوا أن السودان ليس إلا محافظة مثل أسوان، وعندما استقل السودان حسبونا تبعاً لهم فكنا نقول لهم : أنتم لا تعلمون من نحن . نحن حركة إسلامية مستقلة كما في تركيا حركة إسلامية وفي باكستان حركة إسلامية، فما علينا إلا أن نتناصر معكم فيما بيننا، ولكننا لسنا فرعاً عضوياً لكم أو تبعا، وكانوا يظنون من بُعد بأننا خرجنا عليهم . والمصريون الرسميون عموما كانوا يظنون أن السودان خرج عليهم بالاستقلال، فكانوا يريدون اتحاداً مع السودان حتى أن الحزب السوداني الذي غلب في أول انتخابات في البلاد كان rsquo;اتحادياًlsquo; بزعامة اسماعيل الأزهري، ولكن عندما تغير الحكم في مصر إلى العسكرية رأوا أنه لا يمكن أن يُقبل حكم العسكر من مصر يطغى علينا حتى الجنوب وكانت ستنشأ حرب أهلية إذا فُرض الاتحاد، ولكن الحمد لله لم يحصل ذلك واختار السودان بإجماعه الاستقلال. لكن ما يزال هناك شيء في النفوس على المستوى الشعبي والرسمي.

لنستأنف الحديث عن مرحلتك الجامعية. في أي جامعة التحقت وفي أي عام؟

- إلتحقت بجامعة الخرطوم وكانت تسمى كلية وإدارتها بريطانية وكان ذلك في عام 1951م فعندما تخرجت استلمت شهادة خارجية من لندن، وهي بعد الاستقلال تطورت إلى جامعة.

في أي مجال تخصصت يا شيخ؟

- تخصصت في القانون.

يحضرني سؤال عن سبب اختيارك لهذا التخصص بالرغم من خلفيتك ونشأتك الدينية التي ربما كانت تقودك إلى تخصص آخر؟

- الحقيقة أني كنت محتاراً في الخيار بين سياقين : الطب أو الهندسة، بحكم أن شهادتي كانت عالية الدرجة جداً، أما الهندسة فكان أخي الأكبر يدرس فيها فلذلك تجنّبتها فكان لي إما الطب أو اللغة العربية وذلك لحبي لها فكنت أؤلف الشعر وأحفظ المعلقات وقرأت (الكافي في علم القوافي) وأقرأ كل الشعر الجاهلي وأحفظ منه الكثير، فتحيرت وذهبت إلى القانون محايداً.. ودرست الشريعة والقانون.

ما الذي تتذكره يا شيخ حسن ويمكن رصده في المرحلة الجامعية؟ أظنه بداية انطلاقك في الحركة الإسلامية؟

- في المرحلة الجامعية بدأنا نقرأ كل كتب التفسير في مكتبة الجامعة كطلاب إسلاميين وهناك التحقت بالحركة الإسلامية.

على ذكر القراءة ، حتى الآن لم أسمع منك أنك تتلمذت على يد شيخ، فثمة مسلمة في تراثنا السلفي تقول: من كان شيخه كتابه كثر خطأه.هل تنطبق هذه المقولة على حسن الترابي ؟

- لا.لأنه يقرأ هذا الكتاب وذاك الآخر وبعضه يصحح ويتم بعضاً ويكمل بعضاً.. الآن أصبح الغالب في ثقافتنا الدينية أنّا كلنا مرهونون قدرياً، وأصبحنا قدريين مكتوبين لزعيم قبيلة واحد ولرئيس واحد أولشيخ واحد. الوحدانية لله فقط يا أخي الكريم، والمرء الفرد حر بمشيئة الله مسئول بتكليفه لا يُغنيه في الدنيا ولا الآخرة اتّباع السادة والكبار، وإنما يرجع الأمر كله إلى الله.

إذن أنت تعارض هذه المسلمة السلفية؟

- نعم فالأمر واسع اقرأ كل الكتب وكل المذاهب ولكل الشيوخ واذهب إلى كل البلاد واطلع على كل أنماط التعليم الدينية والدنيوية واقرأ كل اللغات. وهذا ما حببني إلى اللغة فأنا في الجامعة كنت أدرس اللغة الفرنسية مع الإنجليزية.

دعني أجادلك هنا ياشيخ حسن بأن الذي يعكف على الكتاب ولم يستكمل أدوات النقد بعد أو يتوافر على الخلفية المتينة التي تقيه أن يقع في الشبه الكثيرة، بالتأكيد هو ليس محصناً ضدها، فلربما تزلّ به القدم، ما يدعم تلك المقولة السلفية بضرورة التتلمذ في البداية على يد عالم.

- كلا كلا يا أخي. الارتهان للشيخ هذا أو ذاك أو العالم إنما يجمد عقلك، وينبغي أن تمضي حراً ومبدعاً ولا أقصد أن تعربد بغير هداية ولكن اقرأ كل الساحات وكل الكتب لكل الشيوخ، وتلك مع تجربتك مصادر للمعرفة تكمل بعضها البعض. وأنا أقول هذا ليس تعالياً على الناس ولكني لست مذهبياً فأنا قرأت أغلب كتب الصوفية وأحفظ كثيراً من أناشيدهم وأعرف ما لا يعرفه الصوفية عن أئمة طرقهم فمثلاً كثير منهم لا يعرفون أصل عبدالقادر الجيلاني وأين ولد وماذا كتب وكذلك أقرأ كتب الفقه وأسوح في كتب العلوم.. فيا أخي الكريم الفردية أمامنا لله فقط `فبعد الله لا نوحّد أحداً حتى عندما أنشأنا الحركة من أول يوم كانت جماعية ولم يكن لدينا مرشد واحد كما كان للإخوان المسلمين في مصر أو كما هو لكثير من الجماعات الدينية.

لنعد إلى الجامعة ونسألك عن الحياة الجامعية والتيارات الفكرية والسياسية التي كانت موجودة فيها؟

- أنشط تيار كان التيار الليبرالي الذي يميل للثقافة الغربية ويُقلّد الغربيين وهو ليس منظمة بل هو تيار فكري.

وهل نشأ هذا التيار منذ ذلك الوقت في السودان؟

- البريطانيون كانوا يحكمون السودان ويسيطرون على الجامعة تماماً فالطلاب الليبراليون كان يزورون البريطانيين في بيوتهم فإذا زرت بيت البريطاني الخبيث هذا كأنك زرت الحرم. فإذا قرأت كتبهم تجد نزعة ليبرالية متفشية فيك، وكذلك الشيوعيون كانوا حركة منظمة سبقت الحركة الإسلامية وكانوا مسيطرين في الجامعة وكنا لا نستطيع علناً أن نقول كلمة أو محاضرة دينية أو نقيم صلاة جماعة أو نؤذن للصلاة. وبعد جهد بالغ إستطعنا أن نكسر هذه القيود وبدأت الحركة تتسع في الجامعات والمدارس الثانوية.

من كان قائد الحركة الإسلامية في ذلك الوقت؟

- كان أبرزنا يسمى بابكر كرار معه فئة من الطلاب الاشتراكيين الذين كرهوا جهر اليساريين حينئذ بعدائهم للدين لأن الدين أفيون الشعوب وبالإلحادية المطلقة، أما الآن فلا تسمع لهم همساً- فهؤلاء الطلاب فئة خرجوا وأرادوا أن يقيموا حركة إسلامية اقتصادياتها اشتراكية، وبعد حين بان خلطهم بين الإسلام والاشتراكية الشرقية فاختلفنا معهم فخرجوا منا. وهو ذهب إلى ليبيا ليشترك في تحرير الكتاب الأخضر الذي فيه اشتراكية وفيه شعارات دين وشعارات عروبة.* بسب علو الماركسية البائدة اذاك، تورط بعض المفكرين الإسلاميين في تقريب الإسلام منها، فظهرت الموجة الاشتراكية الإسلامية ولعلك تذكر مصطفى السباعي وغيره؟

- نعم وقد قابلت الدكتورمصطفى السباعي في بريطانيا وكنت مترجمه في المقابلات وقرأت كتابه في الاشتراكية وغيره.

هل تناقشت معه في كتابه اشتراكية الإسلام؟

- نعم تناقشت معه وعموماً الكتاب لا بأس به لأن النزعة اشتراكية في ذلك الوقت وكان يريد أن يخاطب الناس بلغتهم، أن الفقراء لا يضطهدون حقاً وأن روح هذه المعاني والمبادئ تجدونها في الإسلام. لذلك يا شيخ حسن هذا السبر التاريخي ليس من باب المتعة ولكن لأخذ الدروس والعبر..هذه الظاهرة تحديداً بودي مناقشتك فيها لأنها تصب تماما في مشروعك، فالقارئ للتاريخ يلاحظ أن رموز الفكر الإسلامي عند علو أي تيار فكري يحاول بعضهم ليّ أعناق النصوص وقطعها أحيانا ليحقق مواءمة هشة بين ذلك التيار وبين الإسلام، وهاك ما فعله مصطفى السباعي ومحاولته المواءمة مع التيار الاشتراكي، والتي انتهت في أرفف التاريخ كمواءمة شائهة خديج..اليوم نشهد علوا للتيار الليبرالي، ونجد أمثال الشيخ حسن الترابي يكرر ذات المحاولة دون اتعاظ من الدرس ويحاول المواءمة بفتاواه مع التيار الليبرالي..كيف تعلق.

- كلا. أنا عرفت السباعي يرحمه الله، وكان يريد أن يرد من جرفه هذا التيار الاشتراكي، وأن يخاطبهم بلغة فيها قيم الإسلام ومعاني الاشتراكية فأراد أن يتلقط الآخرين ويثبت لهم أنهم يمكن أن يجدوا في الإسلام ما يرفع وطأة الفقر والبؤس والاضطهاد فهذا يمكن أن يُغني الآخر أن يتلمس هذه القيم والعدالة في منطقة أخرى. فالقرآن تحدث كثيراً عن المسكين والفقير وابن السبيل والعدل ونبذ الظلم والخ..

دعني أسقط هذه التهمة على الشيخ حسن الترابي الذي بمغازلته للمرأة والتي ستفرح الليبراليين والعلمانيين بشكل كبير كحديثه عن الحرية والحقوق هي أيضاً من هذا الباب لكي تجذب هؤلاء وتكسب ودهم؟

- سأقول لك شيئاً . أني ذهبت للدراسة في بريطانيا فلم أجمع صلاة مع صلاة ودخلنا في منظمات وجمعنا كل الإسلاميين من مختلف البلاد العربية وغيرها للدفاع عن الجزائر ومنظمة أخرى خاصة بالجماعة الإسلامية (الأخوان). فكنت كل ما أقرأ لهم شيئاً في ثقافة الغرب يقربني من ديني فإذا قرأت أصول ديني في القرآن وأصول السنة أجد جذور المعاني هنا ضيعناها نحن وهم أنفسهم التقطوها منا، فقرأت كيف أثر الإسلام عليهم، كيف خرج العقد الاجتماعي من البيعة وأخرجوا منه الديمقراطية وكيف خرج قانونهم هذا من متون الأحكام الشرعية وكيف خرج القانون الدولي والدستوري منّا، فعندما رجعت إلى أصوله وجدتهم كانوا يظنون أن الدولة مطلقة السيادة ولكن أن يكون هناك شيء يلزمها في العهد واحترام الأقليات فهذا ما استخرجوه من عندنا، وأن يكون فوق السلطان ميزان عهد وقيم أعلى كذلك أخذوه منا.

لا زلت أعيد السؤال عليك يا شيخ حسن..أنت تقوم بهذه المواءمة وتصر على بأن ما تطرحه أنت من جديد كان موجوداً أصلاً في أدبياتنا الإسلامية؟

- نعم.. فـ (لولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) فالذي هوى بالمسلمين قديماً هو أن لم يجدوا من يتحدّاهم ويدافعهم.. فيا أخي لن تكون لاعباً كرة ممتازاً إذا لم يقابلك لاعب آخر ولن تكون تاجراً ناجحاً إذا لم ينافسك أحد ولن تكون عالماً ذا قيمة إلا إذا كان هناك علماء يجادلونك فالمدافعة هذه سنة في التاريخ.. لماذا ترك الله الباطل والشر؟ تركه حتى ينشط أهل الخير.. فهذا دفعني أنه لا بد أن أقاوم بفكري هؤلاء الأوروبيين لينشط وينمو ويسهم في الحق ويدحض الباطل.

أشعر بأنني لم أظفر بإجابة شافية ياشيخ حسن.. إذن أن ترفض المقولة التي تقول أن الشيخ حسن يغازل الليبراليين والعلمانيين والتي تصادم الكثير من المألوف عندنا.

- أنا أريد أن أدعوهم إلى الإسلام. طبعاً في الغرب الكنائس اتحدت مع الإقطاع ثم اتحدت مع الارستقراطية ثم مع الملوك وأفسدوا الدنيا ثم حتى أُبعدت عن الحياة السياسية تماماً فأنا أريد أن أحدثهم أن ديننا الإسلامي فيه كل الذي يبحثون عنه.. فكانت الكنائس ضد العلوم الحديثة وأذكر أني ذهبت إلى المملكة حينئذ فكان شيوخ يقولون لي أن من قال إن الأرض كروية فهو فاسق ومن قال أنها تتحرك فهو كذلك أو أنكر. وهؤلاء من كبار العلماء فنفس الأمر وجدته قديماً في أوروبا في الفلك والطب، فالعلم حارب الدين والدين حاربه فلذلك طردوا الدين تماماً لينهض العلم، والفن طرد الدين حتى ينطلق فلذلك كان لابد أن أتحدث إليهم فأنا لست مسلماً لنفسي فقط فالله سبحانه لم يقل لنا أن نحجز الدين ونحتكره في نفوسنا. بل الأمر أن يكون كل منا داعية، فكثير من الآيات تدعونا لذلك (قل.. قل .. قل..) فأصول هذه القضايا المعاصرة بحثت عنها فوجدتها في ديننا، لكن الفقيه التقليدي المنحصر بفقهه لا يبحث كيف يدار الاقتصاد العام إذا حدث تضخم وهو لا يعرف كيف يحكم بلداً ويديرها ولا يعلم شيئاً في العلاقات الدولية. فهذا ما دعاني أن انفتح إلى أولئك الغربيين والمفتونين بهم وأتحدث إليهم.. إذا قيل لي أنت تغازلهم أقول نعم فلا بد أن أدعو الآخر. ألا تعلم أن النبي صلى الله وسلم يأتيه الناس ويقولون له اعفنا من الزكاة والجهاد يقول لهم لا بأس لا بأس ولكنهم في نهاية الأمر صلوا ودفعوا الزكاة وجاهدوا في سبيل الله.

لكي نفهم مشروعك يا شيخ حسن بدقة، أنت تقوم بهذه المغازلة كي تجتذبهم وبعد ذلك تدعوهم إلى الإسلام؟

- نعم والعالم كله الآن مجال دعوات متفاعلة، حتى في بلدي الناس ينفعلون بالغرب وينبغي أن يفعلوا فيه. ليس لدينا قطيع منغلق محصّن.

طروحات تنسف طروحات

ولكن هنا تعرض مسألتان.. المسألة الأولى لنعد إلى التاريخ وما فعله يوسف السباعي كنموذج انظر كتابه اشتراكية الإسلام في أرفف التاريخ وقد علاه الغبار يعني أفكاره تجاوزها الزمن.. إلا يخشى الشيخ حسن الترابي أن أطروحاته هذه التي يطرحها بمجرد علو تيار جديد.. أن يأتي ترابي جديد في زمن تالٍ ويبلور الإسلام بالرؤية التي تتوافق مع ذلك العصر وكل هذه الآراء الاجتهادية التي تقول بها سيعلوها الغبار وتصطف بجانب كتاب مصطفى السباعي؟

- أسأل الله أن يكون ذلك التقادم والتجدد متوالياً أبداً. لأن أصل الدين قد اكتمل ولا يبعث أنبياء يجددون لنا الدين في وجه التحديات والابتلاءات والظروف الجديدة فالأمر متروك لنا. وأنا أكتب لأني وراء العصر فنحن تخلفنا ديناً في أنفسنا والعالم كله الآن قرية واحدة حتى العقل تجمد فينا فهذا ليس الرأي النهائي وخاتمة التاريخ فالتاريخ لا يجمد والتاريخ يحاسب كل أمة بما كسبت كما يُحاسبها الله (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم) فلا بد أن نجتهد في وجه ابتلاءات جديدة فالله سبحانه وتعالى يبسطها بين أيدينا لنواجه ظروفاً جديدة حتى ننزل ذات القيم بالخالدة في الواقع الحاضر في أنفسنا وفي الأرض وبذات الأهداف الهادفة إلى الآخرة في الواقع الجديد.

المسالة الثانية أنت تذهب إلى هذا التغيير وهذه المغازلة بنسف كثير من القيم والثوابت إلى الدرجة التي أثارت كثيرا من العلماء وفقهاء العالم الإسلامي اجمع، وقلت بأشياء ربما السباعي والجماعة التجديديين الذين قبلك لم يجرؤوا على طرحها..ألا ترى أن الثمن باهض جدا؟

- يا أخي الكريم. ذلك لأن ثوابت الجمود ثبَّتتنا ألا نتقدم إلى الله زلفى.. عقولنا جمدت عقائدنا أن تكون فاعلة وحصرت فكرنا الديني ألا نعرف السياسات والمناهج والحركات في الحياة العامة واقتصرنا في شعائريات وإجراءيات صورية في الحياة الخاصة، وحتى الشعائريات لا نفهمها، وrsquo; العلماءlsquo; المزعومون يقومون عليها كما يقوم علماء بني إسرائيل على الموروثات ولما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم حسدوه وكان يظن أنهم أقرب إليه بحكم أنهم من أهل الكتاب. والغرب الآن يسعى على أن يبقى المسلمون تحت رهن هذا القديم الذي لا يعلمهم علماً ولا يصنعون سلاحاً فاتكاً ولا ينتجون آلة فاعلة ولا يديرون حكماً راشداً ولا يديرون معاشاً واقتصاداً نامياً. أولئك العلماء يمدون الناس بالتعليمات الجاهزة لا ليتفقهوا بل ليطبقوا.. فقط أوامر جاهزة في برمجة ثابتة لا تتسع ولا تتجدّد. هل نرضى هذا؟ لا طبعاً.. فالآن الغرب يرى أمثالي أخطر من أولئك التقليديين لأنه لا يُريد الحراك بل الجمود المسلمين.

من هنا سآتيك يا شيخ، فأنت رجل تقدم العقل وأنا رجل تخصصي رياضيات ربما نلتقي في أرضية.. الآن أطروحاتك التي راجت وصدمت كثير من الفقهاء والعلماء وزلزت الأرضية الفقهية كل ذلك في مقابل أن يكسب الشيخ هؤلاء العلمانيين، دعني أعلنها في وجهك بكل صراحة بأن النتيجة: هو أنك خسرت علمائنا ولم تكسب الغرب أو الليبراليين أو من تغازلهم وهذه الوقائع أمامك؟

-الغرب أصلاً لا يريد دفعاً للأمة الإسلامية. لا يريدنا أن نصنع ونتقن ونرقى، ولا أن نعزم ونتوكّل فننهض. وإذا أردت أن ترضي الغرب فهذا يعني أن تجمد وتسقط تحت أقدامهم تماماً. هذه سنة التاريخ كلما قامت نهضة تاريخية وجدت من يعارضها.

لنمرر لك موقف الغرب والمفاهيم الغربية نحونا.. ولكن ماذا عن الليبراليين العرب؟

- هؤلاء الليبراليون لم يجدوا في هذا التراث الموروث ما يستجيب لهم. طبعاً الغرب فتح آذانهم وأعينهم نحو قضايا الحياة وهمومها كلها التي دخلت عليهم والعلماء المراجع التقليديون لا يفهمون من هؤلاء ماذا يسألونهم فلا يمدّونهم شيئاً من هداية ويكتفون بأن تؤدي أشكال الصلاة بين أيديهم ويسمعوا صوت القرآن والأذكار ويتركون ما وراء ذلك للسائل ليفعل ما تشاء لأنهم لا يعلمون عنه شيئاً كأنهم آمنوا هداية ببعض الكتاب والآخر كان منسياً كالفراغ. والطبيعة لا تقبل الفراغ لذلك دخل الغزو الليبرالي الغربي مدخلاً سهلاً. وأنا أريد أن أخاطب أولئك العلماء ليتحركوا في ذلك المجال فكأنهم غفلوا وناموا. والنائم إن لم يصح بالنداء تُلقي عليه صدمة والصدمات هي التي كانت دائماً تحرك الحياة الناهضة. هؤلاء الليبراليون نحدثهم ونقول لهم أن في دوركم ووراء دواوينكم من القطاع الحديث رصيداً من الدين المدفون الذي يستجيب لذات الأسئلة ويُعالج ذات القضايا التي تهتمون بها بأثر الغرب. وأنا كداعية إسلامية لا بد أن أدخل بالإسلام إلى هؤلاء بل إلى داخل الغرب وإنما همّ المسلم أن يهدي الضلال لاسيما إن كان فاتناً للمسلمين.

دعني أكن صريحا هنا، من المفترض أن يحتفي بك الليبراليون، ولكن من خلال متابعتي لهم هم يقفون ضدك وضد أطروحاتك يا شيخ..هلا فسرت لنا الأمر ؟

- هم لهم نيات أخرى إذ أصبحوا كأنهم أسرى للغرب يهدفون إلى أن يركن إليه سائر المسلمين في سبيل متاع الدنيا مثلهم.

إذن لأعلنها لك صريحة: أنت فشلت في دعوتك ومغازلتك؟

- لا.. لا.. نياتهم لا تزال مائلة نحو الغرب ولكن بعضهم انفتح وقد يأتيني كثير من الليبراليين يقولون إنهم تعجبهم تلك الآراء الجديدة ويطمئنون لدينهم الإسلامي إن صحّت، وهكذا ينفتحون توبة إلى الإسلام شيئاً فشيئاً وينشرح صدرهم لتتسرب إليهم كل الأفكار الحقة حتى نطهرهم.. فلا بد أن نصل إليهم ولو برفق درجةً فدرجة ولو أردنا قهرهم للعود إلى الإسلام مرة واحدة لصدوا عنا ونفروا.

وطبعاً العلماء التقليديون لا يدكون ماذا أقصد فإذا تحدثت عن عيسى يأتون بالنصوص المأثورة بأسندة واهية ويرفعون الأصوات وهذه طريقتهم، وغير التجادل بالكلمات لا يعلمون شيئاً.. والعالم الإسلامي كله أصبح لا يفعل شيئاً ننتظر انقاذاً مرسلاً من الله وهم جالسون كسالى حتى يظهر فيهم المهدي أو يعود عيسى يضرب لنا الأميركيين ويقتل الخنزير، فالضعفاء دائماً لا يفعلون شيئاً مثلما نجد إماماً منتظراً لدى الشيعة أيضاً.

دعني أخفف من حدة الحوار.. أنت من مدينة كسلا يا شيخ حسن، هل لها علاقة بما اشتهر في العالم العربي عن كسل إخوتنا السودانيين؟ السودانيون اشتهروا بالكسل، فهل هذا صحيح أم افتراء من المصريين بالتأكيد(ضاحكا) ؟

- (مبتسما) اسم كسلا هذا ليس عربياً وكذا أغلب مدن السودان أسماءها ليست عربية فهي معروفة بهذه الأسماء من قبل أن يأتي العرب، لغةً قديمة.. أما كسل السودانيين، فصحيح واعترف بهذا، والسبب يأتي من أن السودانيين كانوا عرباً رعاة لا يعرفون الفلاحة وفنونها ولا الصناعة ويكرهونها وإذا أرادوا أن يسبوا أحداً يقولون: يا ابن الحداد، فالعضو النشيط الوحيد عند العرب هو اللسان. وقد تكون المناشط اليدوية في الشام لها احترامها ولكن عند العرب في الجزيرة وعند العرب الذين جاءونا من هناك لا، فهم يكرهون أن يسمي الواحد نفسه حداداً أو نجارا أو صنائعيا، لذلك أصبح السودانيين كسالى، فالرعي لا يستوجب جهداً، المراعي جاهزة والراعي يراقب ويحلب ويأكل ويغني ويطلق اللسان.

والعرب بثقافة البدو لا يعرفون الجماعة إلا القبيلة. وكذلك في الجزيرة العربية وأذكر أني كنت في وزارة العدل أتحرّى عن الشركات المسجّلة، ولكن تبيّن لي أنّ غالبها يتّخذ كلمة شركة زيفاً. فهي من واحد يملك 99% من أسهمها ومعه ابنه الصغير أو نحو ذلك يريد فقط أن يتمتّع بمحدودية المسئولية. فالسودانيون في ثقافتهم العربية الساذجة لا يعرفون صناعة ولا زراعة كثيفة ولا يعرفون النظام والروح كفريق عمل إلا أن تدخلهم الجيش، حيث الضبط والربط واحترام الوقت والمرؤوسية والفريق الواحد، حتى يتعلموا وإذا قيل لهم اعملوا أمراً عملوا، وإن يكن القرآن يعلمنا الاصطفاف في صف واحد مرصوص في الصلاة فإن صلاة المسلمين اليوم لا يتّحد فيها الظاهر والباطن حتى نخرج منها ونتزكّى عاملين جماعة وشركة في كل الحياة فالصلاة نؤديها شكلاً وإذا خرجنا لم نتعلّم منها شيئاً فلماذا لم تؤثر الصلاة في حياتنا وتعلمنا كيف نقدم الإمام بالشورى ونتبعه لكن ونراقبه ونصوّبه وإذا قال السلام عليكم انتهى أجله.. والله يقول لنا (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله) متزودين بما كسبتم في المسجد ولكن لسان المرء يقول هكذا حال السودان وهكذا حال كثير من أشباههم المسلمين.

ولكن يا شيخ حسن في مقابل ميزة الكسل السلبية، ثمة ميزة إيجابية يتميز بها أخوتنا السودانيون، وعنيت بها سعة الصدر..نشهد جدالا بين أخوين سودانيين تعلو فيها الأصوات، حتى أقول يكاد المختلفان أن يتشابكا بالأيدي، وبعد برهة يتضاحكان ويتشاركان الأكل وكأن شيئا لم يحصل. ما سبب ذلك؟

- نعم.هذا صحيح.ذلك لأن السودان ليس فيه منافسة، والبلد واسعة والسكان قلة، أن هذه القارة التي تسمى السودان يمكن أن تحمل ملياراً، فإذا أقبل عليهم واحد من بعيد إما أن يكون ضيفاً فيكرموه أو أن يكون عدواً فيستعدون له فإن كان ضيفاً ذبحوا له وإن كان عدواً ذبحوه. فالسودانيون في مناسبات المجتمع يتجاوزون العادات والأساليب الحديثة فإذا سمعوا في الإذاعة مأتماً يعرفونه كلهم يتجهون إلى المقابر وكذلك إذا كان هناك عرس يجتمعون عنده.

هذا يحصل بالرغم من اتجاهاتهم الفكرية والسياسية المتباينة؟

-نعم. بالرغم من اتجاهاتهم الفكرية لأنهم أحرار. لا يوجد سلطان علمهم الذل والخضوع للحكام لأن الصحراء واسعة إذا غُلبت أنت تفر إلى الصحراء وتنصب خيامك. روح التحرر هذه جعلتهم ينفتحون للخارج. والسودانيون أخلاط من البشر بعضهم من غرب إفريقيا وبعضهم من شمال إفريقيا وبعضهم عرب وهذا أيضاً زادنا انشراحاً واندماجاً وأيضاً فينا عيوب، ولا بد أن تعرف عيوبك وتصلحها.

- يتبع-