تستعّد الجزائر لإجراء إستفتاء عام وشامل حول المصالحة الوطنية الشاملة والتي وعد الرئيس الجزائري في حملته الإنتخابية أنّ تكون خياره الإستراتيجي في حال فوزه في الإنتخابات الرئاسية والتي جرت في أبريل – نيسان 2004 .
وللإشارة فإنّ الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة كان قد إستهل عهدته الرئاسيّة الأولى بالتلويح بقوّة بخيار المصالحة الوطنية الشاملة والتي يجب أن ينضوى تحت سقفها كل الجزائريين حكاما ومحكومين , ضحايا السلطة و ضحايا المعارضة وكل من ألمّت بهم مصائب الفتنة العمياء التي عصفت بالجزائر في العشرية الماضيّة .
غير أنّ الرئيس عبد العزيز بوتفليقة القادم من رحم الديبلوماسية الجزائرية العتيقة و التي ساهمت في حلحلة العديد من القضايا الإقليمة و الدولية الساخنة في أوقات سابقة لم يتمكن في عهدته الرئاسية الأولى من تفعيل خيّار المصالحة الوطنية الشاملة والذي تبنّاه بقوة وكان حاضرا كمفردة مركزية في كل خطاباته السياسية , صحيح أنّ الرئيس بوتفليقة نجح في تفعيل قانون الوئام المدني الذي أدى إلى تخلّي الكثير من أفراد المجموعات المسلحّة عن أسلحتهم والنزول من الجبال و إلى المدن , لكنّه لم يوفّق في ردم الهوة السحيقة في الجدار الوطني الجزائري هذه الهوة التي تسببّت فيها العشرية الحمراء والتي كان الصراع عندها على أشده بين السلطة الجزائرية ومعارضيها المسلحين و الذي أرخى بظلاله على كل طبقات المجتمع .
ولا يمكن التشكيك في نوايا بوتفليقة حيث تؤكّد مصادر مقربّة منه أنّ الرجل مقتنع إلى النخاع بأنّ المصالحة الوطنية هي الخيار الأوحد أمام الجزائر لطي كل الملفات السابقة التي ما فتئت تؤرّق إنطلاقة الجزائر في الخطين الأفقي والعمودي سياسيا وإقتصاديا و على صعيد لعب الدور المنوط بالجزائر , غير أنّ الرئيس بوتفليقة كان منشغلا بإعادة بناء الدولة الجزائرية من الداخل بمعنى القضاء على مراكز القوة و إعادة الإعتبار لرئاسة الجمهورية و الفصل بين السلطات و تنظيف جهاز الإدراة من الذين تسببوا في خراب الإقتصاد الجزائري , ومعروف أنّ بعض الذين كانوا يعرقلون مشروع المصالحة الوطنية الشاملة كان لهم نفوذ كبير داخل دوائر القرار الجزائر وكانت النظرة الإستئصالية هي المهيمنة على تفكيرهم ومسلكيتهم السياسية .
و لعلّ خروج الكثير من منظرّي تيار الإستئصال من دوائر القرار مهدّ الطريق أمام عبد العزيز بوتفليقة لكي ينتقل بالجزائر من خيار الوئام المدني إلى خيار المصالحة الوطنية الشاملة و التي يجب أن يفعلّها بوتفليقة في عهدته الرئاسية الثانية والأخيرة ليفي بوعده أمام الله وأمام الشعب الجزائري وأمام التاريخ أيضا .
و تبنيّ رئاسة الجمهورية لمشروع المصالحة الوطنية والتي بها لا بغيرها تنفتح الجزائر على الغد المشرق يعتبر مؤشرا على نجاح هذا المسعى خصوصا و أنّ كل مقومات نجاح مشروع المصالحة الوطنية قد توفرّت في المشهد الجزائري , فالخطاب السياسي الرسمي لم يعدّ موزعّا بين النار والحوار كما كان الحال في عهود محمد بوضياف وعلي كافي واليامين زروال , و يحسب لبوتفليقة أنّه أبعد خيار النار والإستئصال من الخطاب السياسي الرسمي الذي كان محكوما بإزدواجية أرقّت الشعب الجزائري وحرمته من كل أمل في قرب خروج بلاده من الأزمة السياسية والدموية الخانقة .
وبات خطاب المصالحة الوطنية الشاملة هو الغالب على كل خطابات الرئيس بوتفليقة ولقاءاته الإعلامية و السياسية الأمر الذي أعطى هذا المشروع صدقية , خصوصا وأنّ بوتفليقة وعد بأنّ تكون المصالحة الوطنية الشاملة خيارا إستراتيجيّا وليس خيار مناورة ومداهنة .
وفي عهدته الثانية حملّ بوتفليقة أجهزة الأمن الجزائرية المسؤوليّة عن إختفاء وقتل آلاف المواطنين الجزائريين وخيرّ ذوي المفقودين بين الحصول على تعويض من الدولة الجزائرية أو مقاضاة الذين تسببوا في قتل فلذات أكبادهم , و مثل هذا الإعتراف ضروري في إغلاق كل الملفات السابقة و التي لا يمكن إغلاقها بدون تحمل مسؤوليات ما بشأنها .
وغير تبني الرئاسة الجزائرية لمشروع المصالحة الوطنية وإعادة القوة للرئاسة الجزائرية وتوزيع المهام الدستورية على بقية المؤسسات وفق ما يقتضيه الدستور , فإنّ الجزائريين كل الجزائريين بأحزابهم ومعارضاتهم وطبقاتهم السياسية و حتى أولئك الذين تضرروا من الفتنة العمياء التي عصفت بالجزائر أعلنوا عن قبلوهم مبدأ العفو العام والإنخراط في أكبر مصالحة وطنية شاملة في تاريخ الجزائر , وحتى الدكتور عباسي مدني زعيم جبهة الإنقاذ طالب الشعب الجزائري بدعم عبد العزيز بوتفليقة لإنجاح مشروع المصالحة والطنية الشاملة و أعتبر ذلك وصية للعشب الجزائر خصوصا وأنّ أطلق هذا الموقف من المستشفي الذي يرقد فيه في الدوحة بقطر , وبهذا إرتفع سقف المصالحة الوطنية الشاملة والتي لم تعد حكرا على السلطة أو الإسلاميين , بل إنّ التيارات السياسية الجزائرية بمختلف إنتماءاتها حتى تلك التي لديها موقف إيديولوجي من التيار الإسلامي باتت تنادي بالمصالحة الوطنية الشاملة والكاملة و التي ستنهي إلى الأبد سنوات الجمر الثانية في الجزائر .
والشعب الجزائري مستعّد أن يصوّت بقوة لمشروع المصالحة الوطنية الشاملة بل إنّ الشعب الجزائر على الدوام كان مع هذا الخيار لأنّه ينسجم مع نسيج شخصيته ومع تركيبته ومكوناته .
و بالتأكيد فإنّ المصالحة الوطنية الشاملة يجب أن تكون كاملة غير ناقصة بمعنى لا يجب أن تكون إجراءا قانونيّا شكليّا تحددّ فيه أسماء من يتمّ العفو عنهم لأنّه وبهذا الشكل ستكون أشبه باللعبة أو المناورة أو العملية السياسية الناقصة , ويجب أن تشمل الجميع وكل من أخطأ في حق الشعب الجزائري سواء في السلطة أو المعارضات المسلحة يجب أن يشملهم هذا العفو , حتى لا يفتح هذا الملف أو ذاك في كل مرحلة سياسية معينة وبالتالي ستكمل الجزائر مسيرتها عرجاء تعيش على وقع جروحها الغائرة .
ولذلك يفترض أنّ تكون المصالحة الوطنية الشاملة والمدعومة ب : نعم شعبية واسعة مظلة يستظّل بها كل الجزائريين في الداخل كما في الخارج . ويجب أن تردف برفع حالة الطوارئ المشؤومة و إرخاء العنان للعمل السياسي التعددي والحرية الإعلامية ضمن الضوابط القانونية المعروفة , ورفع كل أشكال الحيف والظلم والقهر والإضطهاد والإستبداد و الإحتقار وكافة الممارسات التي دفعت الإنسان الجزائري إلى أن يخرج من طبيعيته ويصعد إلى الجبال ويقتل كل شخص يبصره في طريقه .
وهذا المشروع السياسي لا يمكن أن يكللّ بالنجاح إلاّ إذا واكبه مشروع إقتصادي يلغي الفجوة العميقة بين مجتمع الخمس بالمائة من أثرياء الفتنة الجزائرية ومجتمع الخمس والتسعين بالمائة من المسحوقين والمستضعفين والذين لحدّ الآن لم تشملهم نعمة النفط والغاز و مازالوا يعانون من أزمات البطالة والسكن و التعقيدات الإجتماعية الأخرى , و يجب أن تستثمر الدولة الجزائرية إرتفاع فائض العملة الصعبة لديها جراء إرتفاع أسعار النفط لتصرف هذه الأموال بطريقة مدروسة على الشعب الجزائري الذي وفي أحايين كثيرة كان يدفعه حيفه وفقره إلى الثورة على السلطة التي سرق رجالها قوته و مستقبله .
إنّ أمام عبد العزيز بوتفليقة فرصة تاريخية لإخراج الجزائر من أزمتها عبر مصالحة وطنية شاملة , و لا يوجد أفضل من 05 تموز – يوليو المقبل ذكرى إستقلال الجزائر عن فرنسا تاريخا لإطلاق هذه العملية السياسية والتي بالتأكيد ستضع الجزائر في السكّة الصحيحة .
و إذا تمّ ذلك فأنا مستعد أن أتصل بلجنة نوبل في السويد حيث أقيم و أقترح إسم الرئيس بوتفليقة للحصول على جائزة نوبل للسلام , لأنّ الذي يريح شعبه من الدمار اليومي و العذابات المتواصلة لن يستحق جائزة نوبل فقط , بل سيحوز على رضا المولى عز وجلّ وذلك خير وأبقى !!!