يُرجع البعض إحراق مكتبة الاسكندريه ليوليوس قيصر (100-44 ق.م.). وأحد أهم اسنانيد هذا الادعاء هو ما دونه يوليوس قيصر نفسه في كتابه Alexandrian War من أن النيران التي أشعلها جنوده لإحراق الأسطول المصري الموجود في ميناء الاسكندريه قد امتدت لتلتهم مخزنا مليئا بأوراق البردي يقع قريبا من الميناء. ولكن من الدراسة الجغرافية لموقع مكتبة الاسكندريه في حي بروخيون Bruchion بعيدا عن الميناء يتضح أن هذا المخزن يستحيل أن يكون المكتبة. كما أن شبهة حرق يوليوس قيصر لمكتبة الاسكندريه من السهل دحضها من خلال قراءة كتاب Geography للمؤرخ سترابو Strabo الذي زار الاسكندريه حوالي سنة 25 ق.م. والذي يستمد مادته العلمية من المصادر التاريخية التي كانت موجودة في مكتبة الاسكندريه في ذلك الوقت. وبالإضافة لذلك فإن سيسرو Cicero أشهر مؤرخي الامبراطورية الرومانية، والذي عُرف بعدائه الشديد ليوليوس قيصر، لم يذكر إطلاقا واقعة إحراق يوليوس قيصر لمكتبة الاسكندريه في كتابه الشهير Philippics مما يعد دليلا إضافيا على براءة يوليوس قيصر من تلك التهمة.

ورغم ذلك فإن بعض المؤرخين يتفقون على أن يوليوس قيصر هو بالفعل من قام بإحراق مكتبة الاسكندريه. وأحد هؤلاء المؤرخون هو بلوتارخ Plutarch في كتابه Life of Caesar الذي كتبه في نهاية القرن الأول الميلادي والذي ذكر فيه أن مكتبة الاسكندريه قد احترقت بفعل الحريق الذي بدأه يوليوس قيصر لتدمير الأسطول المصري المرابط في ميناء الاسكندريه. وفي القرن الثاني الميلادي، وفي كتابه Attic Nights، يذكر المؤرخ الروماني اولوس جليوس Aulus Gellius أن المكتبة الملكية السكندرية قد أُحرقت بطريق الخطأ عندما أشعل بعض الجنود الرومان التابعون ليوليوس قيصر بعض النيران. وفي القرن الرابع يتفق المؤرخان الوثني اميانوس مرسلينوس Ammianus Marcellinus والمسيحي اوروسيوس Orosius على أن مكتبة الاسكندرية قد أُحرقت خطأً بسبب الحريق الذي بدأه يوليوس قيصر. ولكن في الغالب هنا أن هؤلاء المؤرخين قد خلطوا بين الكلمتيّن اليونانيتيّن bibliothekas بمعنى مجموعة من الكتب وbibliotheka بمعنى مكتبة، وعلى هذا فقد ظنوا أن ما كُتب سابقا عن حرق بعض الكتب القريبة من الميناء والموجودة في بعض المخازن هو حرق لمكتبة الاسكندريه الشهيرة.

وعلى هذا، وبالنظر لما كتبه المؤرخون الرومان السالف ذكرهم، فمن المرجح أن المكتبة الملكية السكندريه قد أُحرقت بعد زيارة سترابو للمدينة حوالي 25 ق.م. ولكن قبل بداية القرن الثاني الميلادي، وإلا ما كان هؤلاء المؤرخون قد ذكروا حادثة حرقها ونسبهم إياها خطأً ليوليوس قيصر. والنتيجة هي أن المكتبة قد دُمرت في الغالب بفعل شخص آخر غير يوليوس قيصر ولكن الأجيال التالية للحادثة أعتادت الربط بين الحريق الذي وقع في الاسكندريه إبان وجود يوليوس قيصر فيها وبين إحراق المكتبة.

ولكن من المعروف أن مكتبة الاسكندريه الملكية، أو المتحف كما كان يُطلق عليها حيث كانت تضم أصول العديد من أمهات الكتب في العالم، لم تكن المكتبة الوحيدة الموجودة في مدينة الاسكندريه، بل كانت هناك مكتبتان آخرتان على الأقل: مكتبة معبد السيرابيوم ومكتبة معبد السيزاريون. واستمرار الحياة الفكرية والعلمية في الاسكندريه بعد تدمير المكتبة الملكية، وازدهار المدينة كمركز العلوم والآداب في العالم ما بين القرن الأول الميلادي والقرن السادس الميلادي، قد اعتمدا على وجود هاتين المكتبتين وما احتوتاه من كتب ومراجع. ومن الموثق تاريخيا أن المكتبة الملكية كانت مكتبة خاصة بالأسرة المالكة وبالعلماء والباحثين، بينما كانت مكتبا السيرابيوم والسيزاريون مكتبتنيّن عامتيّن مفتوحتيّن أمام عامة الشعب. ويعود الفضل في إنشاء المكتبة الملكية لبطليموس الثاني فيلادلفيوس بينما أسس ابنه بطليموس الثالث معبد السيرابيوم والمكتبة الملحقة به. ولاحقاً عُرفت مكتبة السيرابيوم باسم المكتبة الأبنة Daughter Library. وبينما كان موقع المكتبة الملكية في حي بروخيون Bruchion الملكي بالقرب من القصور والحدائق الملكية، فقد كانت مكتبة السيرابيوم ومعبد السيرابيوم الذي للإله سيرابيس في حي راكوتيس Rhakotis الشعبي. وبينما حوت المكتبة الملكية النسخ الأصلية لمعظم كتب العالم، فقد كان من المعتاد وضع نسخ من تلك الأصول في مكتبة السيرابيوم.

وبعد إحراق المكتبة الملكية صارت مكتبة معبد السيرابيوم، الأكبر حجما من مكتبة معبد السيزاريون، المكتبة الرئيسية لمدينة الاسكندريه. وأول إشارة تاريخية لتلك المكتبة كانت في كتاب The Apology للعلامة المسيحي ترتليان Tertullian، حيث يذكر أن مكتبة البطالمة محفوظة في مكتبة السيرابيوم، وأن من ضمن ما تحتويه من كتب نسخة للعهد القديم يذهب يهود الاسكندريه لسماعها تُقرأ في المكتبة. وإذا اعتبرنا أن مكتبة البطالمة هي المكتبة الملكية، فيمكن القول بأن ما تم انقاذه من كتب أصلية من مكتبة الاسكندريه الملكية قد تم نقله لمكتبة السيرابيوم لتوضع بجانب النسخ التي كانت موجودة بالفعل في تلك المكتبة الإبنة. وهذا التحليل مدعم بما هو مذكور في رسالة ارستياس Letter of Aristeas (كاتب سكندري يهودي) والتي يرجع تاريخ كتابتها لنهاية القرن الأول الميلادي، من أن مخطوطات المكتبة الملكية قد نُقلت لمكتبة السيرابيوم. وفي عام 379 م. يعود القديس يوحنا ذهبي الفم لذكر مكتبة السيرابيوم في كلامه الموجه للأنطاكيين من أن مكتبة السيرابيوم تحوي نسخة العهد القديم التي أمر بطليموس الثاني فيلادلفيوس بترجمتها من العبرية لليونانية.

ثم في عام 391 م. قام بعض مسيحيو الاسكندريه بتدمير معبد السرابيين الوثني وبناء كنيسة فوق أنقاضه. ولكن تدمير السرابيين لم يطل مكتبته وذلك في الغالب لاحتوائها على العديد من أمهات الكتب المسيحية واليهودية بالإضافة للكتب العلمية الأخرى والتي كانت محل اهتمام العديد من العلماء الوثنيين والمسيحيين على السواء. وحتى نهاية القرن السادس الميلادي نجد العديد من الإشارات التاريخية لوجود مكتبة السيرابيوم في الاسكندرية، ومن تلك الإشارات وصف الفيلسوف السكندري امونيوس Ammonius لتلك المكتبة ولما حوته من كتب، مثل نسختيّن لكتاب المصنفات Categories لارسطو.

وبعد احتلال العرب للاسكندريه في 22 ديسمبر عام 640 م. وتدمير أسوار المدينة ونهبها، حدث أن تعرف عمرو بن العاص على عالم لاهوت مسيحي طاعن في السن يدعى يوحنا فيلوبونوس John Philoponus (تلميذ الفيلسوف السكندري امونيوس السابق ذكره، وهو معروف لدى العرب باسم يحيى النحوي، وقد ساهمت كتاباته إلى حد كبير في نقل الثقافة الإغريقية للعرب). وبعد العديد من الجدالات الدينية بين يوحنا وعمرو بخصوص التثليث والتوحيد وألوهية السيد المسيح طلب يوحنا من عمرو الحفاظ على الكتب الموجودة في مكتبة الاسكندريه لأن، حسب قول يوحنا، quot;بخلاف مخازن وقصور وحدائق المدينة، فإن تلك الكتب ليست ذات فائدة لعمرو أو لرجالهquot;. حينئذ استغرب عمرو وسأل عن أصل تلك الكتب وفائدتها، فسرد له يوحنا قصة مكتبة الاسكندريه منذ تأسيسها على يد بطليموس الثاني. ولكن عمرو بن العاص رد عليه قائلا أنه ليس بإمكانه التصرف دون أخذ مشورة عمر بن الخطاب. فكتب بن العاص خطابا لبن الخطاب يستشيره في أمر المكتبة والكتب. بينما كان يوحنا وعمرو في انتظار الرد، أذن الأخير ليوحنا بزيارة المكتبة برفقة تلميذه الطبيب اليهودي فيلاريتيس Philaretes (وهو مؤلف كتاب طبي عن النبض وهو الكتاب المنسوب خطأً ليوحنا فيلوبونوس). وبعد عدة أيام أتى رد عمر بن الخطاب والذي قرأه وترجمه عمرو بن العاص على مسمع كلا من يوحنا وفيلاريتيس، وفيه ما معناه: quot;...واما الكتب التي ذكرتها فان كان فيها ما يوافق كتاب الله ففي كتاب الله عنه غنى، وان كان فيها ما يخالف كتاب الله فلا حاجة بنا إليهاquot;. وهكذا أمر عمرو بن العاص بتوزيع الكتب على حمامات الاسكندريه لاستخدامها في إيقاد النيران التي تُبقي على دفء الحمامات. ويذكر المؤرخ المسلم القفطي في كتابه تراجم الحكماء أن إحراق تلك الكتب قد استمر لما يقارب الستة أشهر، وأن الكتب الوحيدة التي نجت من الحريق كانت بعض كتب الفيلسوف الإغريقي ارسطو وبعض كتابات اقليدس الرياضي وبطليموس الجغرافي. ورواية إحراق العرب لكتب مكتبة السيرابيوم كما ذكرها القفطي مذكورة أيضا في كتب المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار لشيخ المؤرخين المصريين تقي الدين لمقريزي، والفهرس لابن النديم، وتاريخ التمدن الإسلامي لجورجي زيدان. كما يؤيد ابن خلدون في كتابه مقدمة ابن خلدون رواية إحراق العرب لمكتبة الإسكندرية وذلك بالنظر لسلوك العرب في نفس العصر، ومن أمثلة ذلك السلوك إلقاء سعد بن أبي وقاص لكتب الفرس في الماء والنار، وذلك بناء على أمر عمر بن الخطاب الذي بعث لبن أبى وقاص قائلا quot;إن يكن ما فيها هدى فقد هدانا الله باهدى منه وإن يكن ضلالا فقد كفانا اللهrdquo;.

مراجع للاستزادة:
1. Ammianus Marcellinus، XXII
2. Aristeas، Letter
3. Aulus Gellius، VII
4. Caesar، Alexandrian War
5. Canfora، The Vanished Library
6. Cicero، Ad Atticum
7. Gibbon، Decline and Fall، III
8. Lucan، The Civil Wars
9. Orosius، VI
10. Plutarch، Life of Caesar
11. Strabo، XVII
12. Tertullian، Apologetics
13. Vrettos، Alexandria City of the Western Mind
14. جمال الدين أبو الحسن ابراهيم القفطي، تراجم الحكماء
15. تقي الدين أحمد بن علي المقريزي، المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار
16. أبو الفرج محمد بن اسحق بن محمد اسحق النديم (ابن النديم)، الفهرس
17. جورجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي
18. عبد الرحمن ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون

أندرو فانوس
*المتحدث باسم الأقباط الأحرار

www.freecopts.net