انتهت فصول الإرهاب، ومشاهد نحر الرؤوس، والذبح والحرق والتدمير وقتل الأبرياء، وأيام الرعب والتخويف، وصناعة الأفلام الهوليودية المرعبة، وتوقَّفت ماكينة التمويه الوهمية، والتضليل وخلط الأوراق.

انتهت اللعبة التي شارك فيها شياطين الخارج والداخل لتدمير هذا البلد الجميل. اختفى المخرج وكادر التمثيل للاستراحة بانتظار انتهاء كتابة السيناريو الجديد.

إنَّ صور الإرهاب لا تقف عند حدٍّ العنف الدموي، فهناك الإرهاب الصامت الذي يفتك بالمجتمع، وينخر قيَمِه وثقافته وهويته؛ فيهوي جثةً هامدة - لا روح فيها ولا حياة -؛ لتسكن الفوضى والشر، فتذبل شجرة الولاء الوطني، ويُزرع اليأس في النفوس. والتاريخ أكبر معلم؛ فقد انهارت إمبراطوريات عندما ضعفت مجتمعاتها، وتفككت دول حين ضرب الشقاق بين مكونات مجتمعها.

وفلسفة الخراب تبدأ بالمجتمع، حيث "إسقاط الأخلاق"، و"تسييس الدين" والاتجار به، والتشجيع على الترفيه والتساهل بالقيَم، والأخطر هو: "استبدال تعلُّم الفيزياء والكيمياء والرياضيات والتكنولوجيا، بفن الطبخ وأخبار الموضة وتكهُّنات الأبراج". ثم الأدهى والأشرس هو: انتهاك القانون ومحو العلاقات الاجتماعية.

وبتعبير كيت داوت في كتابه "فهم الشر: دروس من البوسنة"، هو "إبادة المجتمع"، أي فلسفة التآكل البطيء الذي يعنى الخرابَ المتدرّج للمدن، وتحويل الناس إلى قطعان هائمة في البريّة، وشل قدرة البلد على تلبية الحاجات الأساسية للمواطنين، وجعل الدولة تُقاتل على جبهات متعددة، ويُحاصرها ضباع المحليين من كل الجهات؛ فلا نجد إلا استمرار مرحلة إدارة الأزمات؛ وليس حلها!

ذهب الإرهاب، وعاد بشكلٍ صامتٍ وقوي، يسري في شرايين المجتمع؛ ليشكل سرطانًا في المؤسسات والعقول، في ظل تراجع الدولة عن حماية المجتمع ومؤسساته؛ فما عادت تهتم بالحياة القيمية الفاضلة، حيث تولَّد مجتمع سياسي طبقي منافق، مهووس بالسلطة وبريق المال، شعاره: العبث بالقيم والمبادئ الراسخة، وتجارته: تصدير الجهالة والشعوذات والفساد.

لا بأس أن نبني الشوارع والأبراج والمطاعم والكافيهات والمولات ومجمعات السكن؛ لكن قوة الأوطان في بناء الإنسان القوي السعيد؛ بتعليمه ومستشفياته ومصانعه ومزارعه وحقوقه الإنسانية، وحمايته من موجات الإرهاب الصامت الذي أحال المجتمع إلى جحيم من الفوضى في مختلف العلاقات.

الإرهاب الصامت، هو الفساد الذي يستشري منهجًا وثقافة، ويُسئ إلى سمعة الوطن، ويهدم أركانَه، وخطره على المجتمع يوازي خطر الإرهاب "الداعشي" وأفكاره المنحرفة؛ حيث زيادة الفقر والبطالة والظلم وفقدان الثقة. صار العراق يحتل مركزَ الصدارةَ على مستوى عالم الفساد والسرقات وتهريب العملات؛ حيث اختفت مليارات الدولارات التي نُهبت من جيوب العراقيين.

فنحن الآن لا نملك مستشفيات حكومية تليق بالبشر لأنها مسكونة من الكلاب والقطط، ولا مدارس تُعلم أبجديات العلم والجمال والأناقة، فقتلوا "القراءة الخلدونية"، واستعاضوا عنها بقراءة تهجي الجن والأموات وغرائب الماضي وبلادته. وصارت جامعاتنا تعلم "الهجع" و"الردح" و"الجوبية" بديلاً عن أينشتاين وابن سيناء والفارابي. صارت شبيهة بوظائف "السوبر ماركت" في بيع شهادات العلم المهدرج!

أصبحت "سرقات القرن" تتوالى بالأعداد والأسماء، ومواليد جُدُد "أكثر من 16 ألف ملياردير ومليونير" بعد أن كان معظمهم من الحفاة العراة وأولاد الشوارع ومحترفي الجريمة؛ صار السياسي الحرامي قدوة للموظف الحكومي وبائع الخضروات.

إقرأ أيضاً: قصتي مع الصحافة الجامعية

الإرهاب الصامت، هو تجارة المخدرات، وشيوعها بين الشباب بشكلٍ لا مثيل له، محطمًا أرقامًا قياسية. وهو حرب مفتوحة، وانتكاسٌ مُركَّب، تستخدمه بعض الدول لتمويل نشاطاتها التخريبية والإرهابية؛ لتحقيق هدفين معًا: جمع المال وتدمير الإنسان!؛ فتحوَّل العراق من مجرد معبر للمخدرات إلى مستهلك كبير! وحسب الإحصائيات الرسمية فإنَّ "نسبة التعاطي بين الشباب في المناطق الأكثر فقرًا تصل إلى 70 بالمئة".

لإرهاب الصامت، هو انفلات السلاح المنفلت الذي يقتل الأبرياء دون حق، ويحمي الفساد، وقوافل السراق وعصابات الجريمة، ومافيات السياسة. هو ثقافة الرعب والعنف الكراهية.

الإرهاب الصامت، هو حقن المجتمع بفكر الغيبيات، واستثمارها سياسيًّا، وتحويل الطقوس والشعائر إلى تعذيبٍ للنفس وجلدٍ للذات، والأخطر: أن تصبح نهجًا حياتيًّا لفهم الحياة بطريقة سوداويّة؛ حيث انتشار البدَع والأكاذيب والخرافات والشعوذة وقراءة الطالع، واستثمار سذاجة الناس ومشاعرهم وجهلهم. هناك أمية متجذرةٌ في عقل الإنسان العراقي، تزداد مساحتها على حساب المعرفة والجمال؛ إذ ينتشر الظلام الدامس في نهارات الثقافة والفنون والتمدُّن.

إقرأ أيضاً: كواتم الحرب السيبرانية

الإرهاب الصامت، هو أن تضع الجاهل في مركز القرار، ويتساوى العلماء والجهلاء، ويختفي العلم ويظهر الجهل، وتنتشر "كتاكيت العلم" و"والدال"، ثم تتدنى مكانة العلم فلا يُعرف منه إلا القشور، فتترعرع صناعة وهم المعرفة، وفساد العلم، وينتعش سوق الرشاوي في بناء الجامعات والبرامج الدراسية، وبيع الشهادة العلمية بالمال الحرام!

الإرهاب الصامت، هو تفكيك الروابط الاجتماعية، وتدمير الحياة الاجتماعية، ونزع المسؤولية والشعور بالمواطنة، وانهيار المنظومة الاجتماعية والأخلاقية؛ حيث تموت القدوة والجيرة والرفقة الجميلة، والتضامن الاجتماعي والهوية الوطنية، والولاء للوطن، وتمرض المحلة وقيمها، وتنسحب صفة التحضر من شوارع المدينة لصالح عباءة القيم الريفية المريضة.

صار الدنيء سيِّدًا والشريف دنيئًا، وخُوِّن الأمين، وأُمِّن الخائن؛ فانقلبت الدنيا انقلابًا، وصارت عاهرات التواصل الاجتماعي وراقصات الملاهي يتصدرن المشهد، ولهنّ دَوِيٌّ في اتخاذ القرار، وأفعالٌ بطولية لا يستطيع أشجع الرجال القيام بها!

إقرأ أيضاً: قائد بلا منصب

نعم الإرهاب يحيا ويعيش بيننا؛ نجده في ضعف واحتقار القانون، وثقافة التحريض الطائفي والقومي، والتنابز بألقاب القبائل والطوائف، وموت الضمائر، والتنمُّر الاجتماعي، والإرهاب الإلكتروني، وتنامي السلوكيات الاجتماعية السلبية؛ ظاهرة الطلاق السريع، وتنوع الزواج بقصاصات الفتاوي، والتحرش اللفظي والجنسي، والجنس الذكوري، والانتحار الاحتجاجي، والدكة العشائرية، وظاهرة الإلحاد، والتخنث عند الشباب، كأنه تحديث مبرمج للتخلف الاجتماعي!

هناك أيضاً جرائم التهديد والقتل والسلب في الشوارع والحارات، وانتشار الجرائم الاجتماعية الغريبة على المجتمع؛ الأبن يقتل والديه، والأب ينتحر بعد قتل أسرته بالكامل، والزوجة تحرق أطفالها انتقاماً من الأب أو من أجل الحبيب!

الإرهاب الصامت لا يُحدث ضجيجًا مثلما يَحدث في إرهاب الرصاص والنحر ودخان الحروب، إنه أرضيَّة لإنشاء مستعمراتٍ للجهل والفساد والنفاق؛ لهدم جدران الوطن، وتفتيت القيم الفاضلة؛ حيث تتآكل شطآن الحياة، وتجف منابع الخير، وتنهار أساسات المعنويات والأمل.

إقرأ أيضاً: أنا وحروف جر القراء

ليس الإرهاب الصامت هدمًا للنظام الاجتماعي فحسب؛ بل هو هدمٌ للمجتمع العراقي ولكن على خطوات؛ أوَّلُها: إبادة المنزل المثالي، وثانيها: إبادة المدينة المتمدنة، وثالثها: الإبادة الجماعية، وأخيرًا إبادة المجتمع التي تتضمن: تدمير التضامن، والهوية، والولاء الوطني، والعائلة، والمؤسسات الاجتماعية، وتدمير وعي الذات.

والقاعدة الذهبية تقول: تُعرف قوة الوطن من قيمة قوة المجتمع وتماسُكه، وهو أرض المعركة الأولى لمواجهة التحديات، وأهم من الدولة وقبلها. وهو الذي يصنع للوطن مجداً، ويجعله "سالماً مُنعّماً وغانماً مُكرّماً". هل أراك في علاك... موطني؟!